اتسع الجدل واحتدم الخلاف حول وضع القضاة والقضاء في مصر بعد الثورة, إلي حد يفرض تساؤلا مبدئيا يتجاوز التعقيدات القانونية والحسابات السياسية الراهنة: ضد من قامت ثورة25 يناير؟ هذا طبعا بافتراض أن كونها ثورة هو أمر لا خلاف عليه, حتي وإن كان الإقرار بذلك ظاهريا فقط من جانب البعض. غير أن مواقف أولئك البعض أصبحت تسير في اتجاه مضاد ليس للثورة ومطالبها بشكل مباشر وصريح, لكن ضمنيا من خلال الدفاع عن الأطراف والجهات والمؤسسات بل الأشخاص الذين قامت الثورة أصلا ضدهم وبسبب ممارساتهم. لكي يحكم نظام مبارك قبضته علي المؤسسات ويضمن انصياع المصريين له, كان لا بد أن يسيطر وبصورة مباشرة علي ثلاثة أطراف: الأمن والقضاء والإعلام. ومصر ليست استثناء في ذلك, فبدرجات متفاوتة وأشكال متباينة, دائما تحتاج النظم الديكتاتورية والحكام المستبدون إلي تدجين تلك المؤسسات وتطويعها ليس فقط لمنع وقوفها ضد الاستبداد, بل لتثبت أركانه وتنفذ سياساته قهرا بواسطة الأمن وقانونا بأيدي القضاء وتجميلا عبر الإعلام. بالتأكيد لم يكن كل أفراد جهاز الأمن أو أعضاء السلطة القضائية أو رجال الإعلام فاسدين. لكن في الوقت ذاته ليس من المنطقي أن يكون كل القضاء نزيها وكل رجال الأمن شرفاء وكل الإعلاميين محايدين, وإلا لما قامت الثورة المصرية. فهي لم تقم ضد مبارك فقط أو حفنة الكبار المحيطين به وحدهم, فلو أن الأمر هكذا لتحققت كل أهداف الثورة تلقائيا بمجرد الإطاحة بهم. لو أن الفساد لم يطل تلك المؤسسات لما بقي مبارك جاثما علي حكم مصر ثلاثة عقود, لم يقف أمامه خلالها من القضاة إلا قليلون تم التنكيل بهم أمام أعين الجميع بمن فيهم من يتباكون حاليا علي استقلال القضاء وكرامة القضاة. لكن سكوت غالبية القضاة, ومنهجية الأمن في التعذيب والسحل والقتل قبل وأثناء الثورة, والسقف المتدني للمنظومة الإعلامية بشقيها الحكومي والخاص, كلها أدلة دامغة علي أن الفساد نخر عظام تلك المؤسسات, والاستبداد أخمد الأصوات الشريفة فيها. بعض المعارك المحتدمة حاليا حول السلطة القضائية, تجري بدافع موضوعي هو الخشية من تطويع القضاء مجددا لمصلحة الحاكم. لكن أكثرها مفتعل أو ملتبس. فمن يخشون علي مصالحهم وارتباطاتهم السابقة القائمة من عهد مبارك, يفتعلون معركة حول هيبة وكرامة واستقلال القضاء, لمنع تساقط من كانوا يحمونهم من المساءلة والحساب. أما من يختلفون مع الإخوان المسلمين فكريا أو سياسيا, فيرون أن إجراء تعديل أو إحلال في أي قطاع أو مؤسسة; ليس سوي مدخل لزرع ونشر أعضاء الأخوان داخلها. واتفقت مصلحة المنتفعين من نظام مبارك مع مواقف المختلفين مع الأخوان, ليشكلا معا حائط صد لا يرجو تطويرا ولا يطلب تطهيرا, بل يحتفظ لتلك المؤسسات بأوضاعها وتركيبتها, بما فيها من فساد وفاسدين كثرة كانوا أو قلة. ومن الغريب أن المؤسسات التي تشهر في وجه من يقترب منها سلاح التمسك بالاستقلالية والمهنية, لم تشهد طوال عامين بعد الثورة أي تطوير أو تطهير ذاتي. وكأنها فجأة شملتها النزاهة وغمرتها الوطنية وتبدل سلوك الفاسدين فيها فتطهروا طوعا من خطاياهم. إن تغليب مقتضيات الخلاف مع الأخوان علي موجبات إنهاء الفساد, يضرب مصداقية القوي السياسية التي تنسب نفسها إلي الثورة بينما تغض الطرف عن رموز وبؤر فساد وكأنه لم يكن. وفي هذا خذلان واضح ونكران مفضوح لمطالب ثورة قامت أصلا ضد الفاسدين والمفسدين في كل موقع دون استثناء. لقد ثار المصريون ضد نظام مبارك بمؤسساته وسلطاته وقوانينه وأدواته, وليس ضد شخصه فقط. لمزيد من مقالات سامح راشد