ينطوي المشهد السوري, راهنا, علي جملة من التحولات المهمة , فيما يبدو انه محاولة لإعادة تزخيم ديناميات هذا المشهد, وصولا إلي تخليق معطيات جديدة يمكن البناء عليها لتجاوز مرحلة الإستاتيكو المدمر التي وسمت الوضع في سورية أشهر عديدة, وكانت مرشحة للاستمرار أكثر في حال عدم وجود تحركات جادة. هذه التحولات بدأت بالتعبير عن نفسها منذ بداية الولاية الثانية للرئيس الأمريكي باراك أوباما, وذلك عقب مخاض طويل من تقدير للمواقف ودراسة للحالة وتقييم للخطط والأوضاع, بعض من حيثيات هذه الحالة تسرب إلي وسائل الإعلام وعبر عنه بعض أركان الإدارة الأولي للرئيس أوباما بنزق وتبرم, غير أن قسما مهما من تلك الحيثيات وجد طريقه إلي التنفيذ المباشر عبر الاتفاقيات والتفاهمات بين الحكومات والدول. ولم يطل المقام كثيرا بعد جولة استكشاف, ليس المواقف, وإنما الأوضاع, التي أجراها وزير خارجية الولاياتالمتحدة جون كيري في أوروبا والشرق الأوسط, حتي بدأت تظهر الاستعدادات, ويتم التأكيد علي الجاهزية في كثير من الدول ذات العلاقة والتماس مع الوضع السوري بشأن التحول المهم والمرتقب الذي سيحدث علي واقع الحدث السوري. ولم يكن الوضع علي المستوي الإقليمي والداخلي بعيدا عن هذه الاستعدادات وتلك الترتيبات, بل إنه كان لابد من الانطلاق منهما لتأسيس التغيير الجديد, عبر تأكيد المصالحة الإسرائيلية التركية, مما يوحي بإمكانية إعادة تشغيل نظرية الكماشة التي أوجدها اتفاق تل أبيب وأنقرة نهاية التسعينيات, ترافق ذلك مع بعض الإجراءات التي بدت متباعدة, ولكنها تصب في إطار إحداث التغيير المقصود, مثل عقد مؤتمر للمعارضة العلوية في القاهرة بهدف إحداث شرخ في بنية النظام وإضعاف تماسكها, وكذلك ترتيب هيكل بناء المعارضة باستحداث الإطار التنفيذي من خلال الإعلان عن تشكيل الحكومة المؤقتة, وإتباع ذلك بإنجاز قرار علي المستوي الإقليمي يمهد لنزع الشرعية عن النظام وإحالتها إلي المعارضة بوصفها بديلا شرعيا حقيقيا. وخلف لوحة هذه الإجراءات, وكسبب مباشر لها ظهور جملة التعقيدات علي هامش الحدث السوري شكلت تهديدا لمصالح الغرب في المنطقة, حيث تبدي أن دينامية الفوضي التي اشتغلت علي الأرض السورية, وتركت تتفاعل علي مدي عامين علي هواها ووفق مقاديرها, بدأت تضرب بقوة خارج حيزها المكاني ووصولت مفاعيلها السلبية إلي ساحات جديدة, كما أن التسونامي السوري بدأ يهدد خارطة المصالح الغربية في المنطقة, مما استدعي العمل علي صياغة جديدة بمثابة استراتيجية إسعافية. ولا شك أن هذا التطور يحمل في طياته اعترافا أوليا بأن الأزمة السورية أنهت وظائفها الدولية والتي من أجلها تم إعاقة كل الحلول لتكمل دورة الاستنزاف, حيث الأزمة علي حقيقة مؤلمة لكل الأطراف الإقليمية والدولية أنها لم تفعل طوال تلك المدة سوي الاستثمار في الخراب الذي لم ينج منه أحد. تقوم الاستراتيجية الجديدة, وبحسب ما تسرب من مصادر دبلوماسية, وما كشفته بعض التحركات السياسية, علي إقفال كل خطوط الإمداد للنظام من الخارج في مرحلة أولي, بما يحقق عملية عزل ناجحة, الهدف الأساسي منها تعديل موازين القوي لصالح قوي المعارضة المسلحة, وإقناع حليفي النظام الخارجيين روسيا وإيران بأن عملية إنقاذ نظام الأسد باتت مهمة مستحيلة, وما عليهما سوي السعي للانخراط في تسوية تضمن لهما بعض المصالح في سورية المستقبلية. يتزامن ذلك مع إقناع مؤيدي النظام الداخليين بأن الأمور مالت بشكل نهائي إلي غير صالح النظام وبشكل لارجعة فيه, وأنها تسير صوب وضع جديد, وما عليهم إلا أن يحجزوا مكانة لهم في أطر هذه المتغيرات الجديدة تضمن لهم الحصول علي أدوار معينة في النظام الجديد, وتجنبهم عواقب الثأر والانتقام في حال استمرارهم بتأييد نظام آيل للسقوط, ولا خيارات بديلة له غير الرحيل وتسليم السلطة إلي قوي المعارضة. ماذا يعني ذلك, يعني أننا إزاء مرحلة صعبة ومعقدة, إذ أن الأطراف الداعمة للنظام, وحتي النظام نفسه, لن يقبلوا بهذه النتيجة بشكل أوتوماتيكي, وحتي الوصول إلي إقناعهم يتطلب ضغطا كبيرا واستعدادات موازية ضخمة, مما يعني أننا أمام تكثيف مرتقب للقوة النارية علي مختلف الجبهات ومزيد من الدماء والدمار في المرحلة القادمة. غير أن ذلك يعني أيضا أن قطار الحسم بدأ يسير علي السكة الصحيحة ولو أن انطلاق ته تأخرت كثيرا وكان من نتيجة هذا التأخير المأساة التي تراكمت في العمق السوري. ومن ملامح هذا التغيير ان ينتهي إلي معادلة لا غالب ولا مغلوب, بحيث لا تحقق الثورة نصرا واضحا ومبينا علي نظام الأسد, ولا يصار إلي سحق مؤيدي النظام السابق وإلغائهم نهائيا, هي أشبه بتسوية يتم فيها إجبار الأسد علي التنحي والحفاظ علي مؤسسات الدولة وتسليم السلطة لقوي مدنية وعسكرية محترفة, وإبعاد كل العناصر المتطرفة من المشهد الجديد لسورية. لمزيد من مقالات غازى دحمان