تحدثت كثيرا من قبل عن أركان العمل السينمائي والعمل التليفزيوني وربما أيضا العمل المسرحي الذي يتم عرضه علي خشبة المسرح للقراءة فقط. وإذا كانت أهم عوامل النجاح والتميز في كل هذه الفنون هي الكاتب والمخرج والممثل فإننا نضيف أيضا عامل الجمهور. الجمهور هو جزء مهم جدا من العملية الفنية وبالذات بالنسبة للفنون التي تعتمد علي المشاهدة أو بمعني أوفي علي الفرجة. فعندما يفتقد أي فن من الفنون التي ذكرناها عامل الجمهور فإنه يصبح وكأنه لم يكن ويظل مجهولا ويغيب في دائرة النسيان. الجمهور الذي يمنح العمل الفني الحياة والانتشار وبالتالي هو الناقد الحقيقي الذي يعمل علي تقييمه ووضعه في المكان الذي يستحقه. ونحن عندما نقول الجمهور فنحن أيضا النقاد ولا نخرجهم عن دائرة الجمهور فهم جزء منه. وقد يتناولون في نقدهم وتقييمهم لأي عمل من أعمال هذه الفنون ولكنهم في نفس الوقت هم يشاهدون ويستمتعون ويشيدون ويسخطون مثلما يفعل أي شخص عادي. فالمشاهد العادي يشاهد هو الآخر ويستمتع ويشيد ويسخط ويمارس كل الانفعالات التي يمارسها النقاد. ولكن من المؤكد أن هذا الفرد يتميز عن غيره من الفرد الناقد بأنه موضوعي تمام الموضوعية في حكمه علي العمل الفني حتي لو كان حكمه هذا في نظر الكثير من النقاد حكما ساذجا. فإن علاقة هذا الفرد بالعمل الفني علاقة مباشرة لا تربط بصانعيه أية رابطة. فلا يكن لهم حقدا أو غيرة أو ضغينة أو رغبة في الاستفادة المادية أو أي وجه من وجوه الانحراف الخلقي أو أي وهم من أوهام الكهف التي حددها ديكارت أو فرانسيس بيكون أو الناقد العربي الآمدي. وإذا كنا نجد اختلافا في التقييم في كثير من الأحيان فإننا نجد أيضا أن هذا الاختلاف هو السمة السائدة بين أفراد الجمهور وربما بدرجات متفاوتة كل حسب مستواه الثقافي ودرجة تعليمه. وقد يستطيع الفرد العادي تبرير إعجابه أو رفضه للعمل الفني ولكنه كثيرا ما يعجز عن هذا التبرير ويكتفي بأوليات الحكم الانطباعي وذلك بأن يقول هذا جيد أو هذا رديء أو يقول بشكل آخر هذا أعجبني أو هذا لم يعجبني وقد يدور كلام لبعض مدعي النقد للأسف في إطار هذا المعني دون أن ندرك المبررات. وإذا أراد الناقد الحصيف أن يخرج من هذا المأزق الصعب ويمارس وظيفته الحقيقية حتي يتميز عن غيره ممن تلقوا نفس العمل الفني فعندئذ يجب عليه أن يقدم الإجابة الصحيحة أو المقنعة علي هذا السؤال! لماذا فشل هذا العمل مع الجمهور ولماذا نجح هذا العمل مع الجمهور ؟ إن الإجابة علي ذلك السؤال البالغ الصعوبة هو في الحقيقة جوهر النقد السينمائي أو التليفزيوني أو المسرحي. وتتطلب هذه الإجابة من الذي تطوع بممارسة النقد ثقافة عالية بكل تفاصيل هذه الفنون بل إنها تتطلب ثقافة عامة علي مستوي عال خاصة أن هذه الفنون مركبة. وتعني كلمة مركبة أي أن كل فن منها يتضمن مجموعة من الفنون. فالعمل الفني الذي ينتمي إلي هذه الفنون ليس مجرد تأليف أو إخراج أو تمثيل أو ديكور أو مونتاج أو موسيقي أو تصوير أو تصميم ملابس وإنما هو مجموعة هذه الفنون في نسيج واحد. ولن يجد الناقد الملم بكل هذه الفنون صعوبة في تحليل العمل الفني والنفاذ إلي جوهره. أما إذا فشل الناقد أو عجز عن الإجابة علي ذلك السؤال فإنه من الأفضل والأكرم له أن يبحث عن شيء آخر يكتب عنه بعيدا عن هذه الفنون المرئية الناطقة. قد يعاني العمل الفني الجيد من الجهل أو من التجاهل والإهمال في فترة ما ولكن الوقت لا يطول. وبما أن الفن يسير في عملية تطور دائم فربما كانت عملية التطور هذه أسرع من عملية تطور المجتمع نفسه, نظرا لظروف كثيرة أبرزها الانحطاط. فقد تصطدم بعض الأعمال الفنية بالجهل الذي قد يسود بين الجمهور المتلقي. ولكن المتلقي في كثير من الأحيان لا يثبت هو الآخر علي حال واحد. فنحن نجد أن هناك عملية ديناميكية داخلية في كتلة المتلقين تحاول أن تدفعهم إلي الإمام. فقد تبطئ هذه العملية حسب الظروف أو تعتدل حركتها أو تتسارع وتحاول أن تضيء الجوانب المظلمة في داخلهم. فالنفس البشرية في مقدورها أن تنتقد ما يدور بداخلها. وفي مقدورها أن تتعرف علي أخطائها وربما أكبر دليل علي ذلك الشعور بالذنب ومفهوم التوبة ومفهوم الخلاص. وتحاول أحيانا النفس البشرية أن تخرج أو تتخلص من حالة الركود التي تسيطر عليها التي قد يرجع السبب فيها إلي الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تسيطر علي مقدرات الفرد أو إلي تفشي الأعمال الفنية الرديئة من مدعي الفن أو ضعاف نفوسه. وعندما تبزغ أمام العديد من الأعمال الفنية الحقيقية يحاول المتلقي بجهد جهيد أن يحقق لنفسه مستوي من التذوق يجعله قادرا علي الاستمتاع بالعمل الفني الجيد. وليس من الضروري أن يكون هو نفس المتلقي الذي سبق وأن رفض عملا فنيا جيدا واستحسن عملا لا ينتمي إلي الفن بصلة. فهي كما ذكرت عملية ديناميكية تختص كتلة كبيرة من الأفراد وينتج عنها تمرد أو رفض لكل ما هو سوقي ومبتذل واحتضان كل ما هو فن أصيل يرتقي بالقيم الروحية عن الفرد. قد يكون التجاهل للعمل الفني الجيد نتيجة لعدة عوامل مثل الضغائن الشخصية خاصة من حملة الأقلام والمناصب كما يحدث كثيرا عندنا أو ضغائن اجتماعية أو سياسية تسعي للقضاء نفسيا علي بعض الفنانين الحقيقيين الذين لا يدينون سوي لفنهم ويرفضون الرياء والكذب ويرفضون الانصياع سوي للحقيقة الفنية. وقد يتعلق هذا التجاهل بنظام سياسي معين ولكن خطورته تتعلق في تأثير نظام علي الناس. وعلينا أن نتذكر ما صنعه الوزير ريشيلو في اضطهاده لبعض كتاب المسرح في عهد لويس الرابع عشر. يقول هربرت ريد في كتابه إلي الجحيم بالثقافة من ترجمة عمر الفاروق عمر ومراجعة الأستاذ الدكتور محمد عناني خير مترجم في عصرنا: هناك بالطبع معني يخضع فيه الفن للصدف التي تطرأ علي شكل أو آخر للحياة, فمن الممكن ببساطة أن تدمره قوي مادية معاكسة, أو حرب أو مجاعة, أو طاعون وفي هذه الحالة سوف يعاني الفن في ظل كل أشكال الحكومات علي قدم المساواة, كما أنه يمكن أن يقاسي من الإهمال, فالعبقرية يمكن أن يخنقها الفقر والجهل وسوء الفهم. أحيانا تقوم الدولة بتشجيع الفن المبتذل وذلك كنوع من التحذير وتثبيط الهمم وتغليظ المشاعر والأحاسيس. وقد تستخدم الدولة في تحقيق هذا بأن تستخدم نوعا من الرقابة تحت شعار حماية الأمن القومي من الأفكار المدمرة. وتصبح الرقابة أشبه بالقمع الفني. ويلجأ مسئول الرقابة عندما يريد أن يقضي علي أي عمل فني فإنه يقوم بإرساله إلي جهات أمنية يعلم تماما أنها سوف تقوم برفضه. وهذا ما كان يحدث في أيام الفاشية الايطالية أو في سنوات الحكم النازي في ألمانيا وما زال يحدث في الدول التي تخاصم الديمقراطية الحقيقية أو أنها ترفع شعار الديمقراطية دون أن تصل إلي جوهرها. وفي هذه النظم يسود الفن المبتذل حتي قال أحد المفكرين بأن الفاشيين حكموا لمدة عشرين عاما ولم يخرج من بلدهم طوال هذه الفترة عمل فني واحد يحمل قيمة سوي قيم الفحش والبذاءة والانحطاط. وأن حال السينما عندنا في أيامنا هذه خير دليل علي ذلك. وقد يتولد عن الفقر الاقتصادي فقر روحي ويعمل الفقر الروحي علي تدمير الحس الفني ويقلل من قيمة التذوق أو ينحط بها فلا تستعذب النفس سوي الأعمال الفنية المنحطة. ويجد مدعو الفن مجالا لأعمالهم وتلتف الجماهير حولهم. ويخيل إلي هؤلاء المدعين أنهم بمتاجرتهم بأحوال هؤلاء الناس إنما يقدمون إبداعات فنية عالية خاصة عندما تتهاوي أمامهم الأعمال الفنية ذات القيمة العالية بعد أن انصرف الناس عنها. وهناك ما يعرف بعدوي الثقافة فإن كلمة من شخص لديه قدر من المعرفة إلي شخص جاهل قد تحرك شيء في داخله دون أن يعي ذلك علي الفور. فقد يستغرق الأمر فترة إلي أن يستطيع عقله أن يدرك ما تسلل إلي داخله ويحرك العقل شيئا في وجدانه. فلو عاش إنسان علي قدر من المعرفة وسط مجموعة من الجهلاء فمن الممكن أن ينشر علمه عن طريق ما يشبه العدوي ولكن لا يحدث أن يصاب هذا الشخص بجهل من يحيطون به. فالعلم يقتحم الجهل ولكن الجهل لا يقدر علي اقتحامه. وقد يعيش الفنان في مجتمع لا يرضي عنه أو عن نظامه السياسي الغاشم ولكنه يستطيع بقوة فنه أن يتحايل ويقدم أعماله في أي شكل من الأشكال بحيث يبده ما يريد وفي نفس الوقت نستطيع من خلاله أن ندرك تمرده علي النظام الذي يعيش فيه وانتقاده المر لهذا النظام. وذلك هو ما فعله نجيب محفوظ. فقد كتب في عصر عبد الناصر مجموعة من القصص القصيرة الرائعة التي تنتقد عصر عبد الناصر الذي لم يكن نجيب محفوظ راضيا عن حكمه فقدم خمارة القط الأسود و تحت المظلة و شهر العسل وتحتوي كل مجموعة منها قصصا قصيرة أشبه بطلقات الرصاص في مضمونها. وفي عصر السادات قدم ملحمة الحرافيش ومجموعة الحب فوق هضبة الهرم ورواية أمام العرش ورواية ألف ليلة وليلة وكذلك لا ننسي ما كتبه عبد الرحمن الشرقاوي عندما قدم مسرحيته الخالدة الفتي مهران. قد تعاني الفنون البصرية الناطقة من جراء النظم السياسية وذلك لأنها فنون لا تتطلب من متلقيها سوي القدرة علي الوعي والإدراك التلقائي البسيط أحيانا وليس القراءة والكتابة تتطلب القدرة علي الاستبصار وليس مجرد الإبصار. لمزيد من مقالات