لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يضطر ملايين السكان في غرب أوروبا للاعتماد علي معونات منظمات الإغاثة لتلبية إحتياجاتهم الأساسية للمعيشة من غذاء وشراب وملبس وفي كثير من الاحيان المسكن ايضا. هذا الخبر الذي نقلته وسائل الإعلام الألمانية عن منظمة الصليب الأحمر اشعل جدلا لا يزال مستمرا في المانيا وغيرها من الدول الأوروبية منذ أسابيع حول التأثيرات الاجتماعية لأزمة الديون الأوروبية من زيادة غير مسبوقة لمستويات الفقر واتساع في الهوة بين الأغنياء والشرائح الفقيرة في معظم الدول الأوروبية. ورغم ان التقارير الدورية التي تصدرها المفوضية الأوروبية في بروكسل عن تطور الأوضاع الاجتماعية داخل دول الاتحاد الأوروبي مليئة بأرقام وإحصائيات تدق منذ فترة ناقوس الخطر وتحذر من تدهور مستويات المعيشة في العديد من البلدان الأوروبية نتيجة لسياسات التقشف كعلاج رئيسي لأزمة المديونية, إلا أن التقرير الصادر عن منظمة الصليب الأحمر وتصريحات مديرها العام وقعت كالقنبلة علي الأوروبيين الذين ترسخ في عقولهم ان دورهم هو تمويل منظمات الإغاثة الدولية لكي تمارس نشاطها في إغاثة شعوب الدول الفقيرة واللاجئين في مناطق الحروب والأزمات علي بعد آلاف الأميال من اوروبا الغنية, ولم يخطر في بال احد انه سيأتي اليوم التي تحول هذه المنظمات نشاطها لإغاثة مواطنين اوروبيين في قلب القارة العجوز جراء الأزمة المالية الطاحنة التي تعصف باقتصادياتها. فجرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر مفاجأة من العيار الثقيل بعد ان كشفت عن تفاقم ظاهرة الفقر في الدول الاوروبية ووصولها لمعدلات غير مسبوقة. ونقلت وسائل الإعلام الألمانية عن إيف داكور المدير العام للصليب الاحمر ان ازمة الديون الأوروبية تسببت في ارتفاع معدل الفقر بين الأوروبيين وأن ثلثي أفرع المنظمة في الدول الأوروبية تقوم اليوم بتوزيع المواد الغذائية والطعام علي المواطنين الفقراء. وقال داكور إنه في حين لم تتأثر المانيا كثيرا بالأزمة فإن دولا أخري مثل إسبانيا وإيطاليا وكذلك دولا في شرق اوروبا تسجل معدلات غير مسبوقة من اعتماد المواطنين علي مساعدات منظمة الإغاثة, ففي إسبانيا يعيش نحو ثلاثة ملايين مواطن علي مساعدات المنظمة من الطعام والشراب بعد ان كانت لجنة الصليب الأحمر في إسبانيا تجمع المساعدات لإرسالها للدول الفقيرة خارج اوروبا. كما تقدم المنظمة في إسبانيا مساعدات مالية لسداد الإيجارات لنحو24 الف إسباني. وفي شمال إيطاليا الذي يرتفع فيه مستوي المعيشة عادة سجل الصليب الأحمر ارتفاعا كبيرا في معدلات الفقر بين المنتمين للطبقة الوسطي بسبب ازمة الديون الطاحنة التي تمر بها البلاد وتأثيرها علي الوضع الاقتصادي. كما زاد حجم المساعدات المقدمة للمواطنين في اليونان والبرتغال حيث فقد الملايين من المواطنين وظائفهم ويضطرون للاعتماد علي اعانات الغذاء المقدمة من افرع الصليب الأحمر. وحذرت المنظمة الدولية من ان الأوضاع المعيشية تزداد صعوبة بالنسبة لدول عديدة في شرق اوروبا مثل رومانيا التي يعيش14% من سكانها في فقر مدقع رغم وجودها في قلب أوروبا وحيث لا يملك السكان مدخرات ولا تملك الدولة نظاما فعالا للضمان الاجتماعي, وترجع المفوضية الأوروبية هذا التدهور المعيشي لملايين الأسر في أوروبا لسياسات التقشف الأوروبية للسيطرة علي ازمة المديونية ما انعكس سلبا علي سوق العمل. ومنذ أيام حذر المفوض الأوروبي للشئون الاجتماعية والعمل لازلو اندور في تقرير المفوضية الأوروبية الدوري الصادر في بروكسل من استمرار الدول الأوروبية في خفض معونات البطالة للعاطلين والمعاشات للمتقاعدين مشيرا إلي أن عدد العاطلين في الاتحاد الأوروبي بلغ في يناير الماضي اكثر من26 مليون عاطل بنسبة10.8 % وهو رقم قياسي جديد مستمر في الصعود. والخطير هو ان اكثر الفئات تضررا هم الشباب حيث بلغ متوسط البطالة بين الشباب قرابة ال24 % والكثيرون منهم ينقطعون فترات طويلة عن سوق العمل ما يهدد بسقوطهم في فخ البطالة إلي الابد. المفوضية حذرت ايضا من الفجوة المتسعة بين دول شمال اوروبا وجنوبها وهذه مشكلة اخري تهدد السلام الاجتماعي بين الدول الأوروبية نفسها. وفي تقرير لمكتب الإحصاء الفيدرالي الألماني تبين أن الألمان من أقل الشعوب الأوروبية فقرا, بجانب النمساويين والتشيك والهولنديين, بينما يزداد الفقر في كل من إسبانيا, وبلغاريا واليونان ورومانيا. ورغم ذلك فإن نسبة الفقراء في المانيا بلغت16% من تعداد السكان عام.2010 وبطبيعة الحال فإن تعريف الفقر اوروبيا هو تعريف نسبي, حيث أن الفقير حسب التصنيف الأوروبي هو من لا يزيد دخله علي60% من متوسط الدخل في بلده الأوروبي وبذلك يكون المواطن الألماني الأعزب فقيرا مثلا إذا قل دخله الشهري عن952 يورو في حين ان الفقير في رومانيا يقل دخله عن105 يورو فقط شهريا وفي بلغاريا145 يورو, اما في لوكسمبورج فيقدر حد الفقر1626 يورو, وفي الدنمارك1319 يورو شهريا. وبسبب معدلات الفقر والبطالة المتزايدة في أوروبا وخاصة بين الشباب تزداد المخاوف من تكرار اعمال الشغب والفوضي كالتي شهدتها بريطانيا ودول اوروبية عديدة في العام الماضي. وهو ما دفع مدير الصليب الاحمر لتوقع إضطرابات إجتماعية عنيفة جديدة في بريطانيا وإسبانيا وغيرهما من دول جنوب أوروبا وشرقها في ظل وجود أعداد طائلة من الشباب المؤهل العاطل بلا فرص حقيقية. ويبدو ان قادة اوروبا مضطرون خلال الاشهر القادمة للإنشغال اكثر بالبعد الإجتماعي لأزمتهم المالية والبحث عن حلول محلية واوروبية لمواجهة خطر الإحتجاجات الشعبية المتوقعة بسبب تحمل الفقراء لفاتورة ازمة الديون. وفي المانيا ترتفع الاصوات المطالبة بتغيير ذلك وزيادة الضرائب علي الأثرياء. ولم يعد ذلك مطلبا قاصرا علي الأحزاب اليسارية وإنما يطالب به ايضا سياسيون محافظون وليبراليون. كما فاجأت الكنائس الالمانية حكومة انجيلا ميركل في إحتفال عيد الفصح منذ ايام بالمطالبة بزيادة الضرائب علي الميراث وإجبار الأثرياء علي سداد مبلغ كبير من ثرواتهم كمساهمة منهم في تمويل نظام الضمان الاجتماعي ومساعدات البطالة وإعانات للاسر الأقل دخلا.