عندما سمعت الخبر الموجز في نشرة الاخبار هتفت وأنا أتنفس الصعداء: أخيرا.. ومنيت النفس بعهد جديد لكليات الفنون بعد تغيير نظام الالتحاق بها عند برزخ الثانوية العامة قبل انتقال الطلبة الي الجامعة, وأعني تحديدا امتحان القدرات الفنية ضمن امتحانات نهاية مرحلة التعليم الثانوي التي تؤهل الطالب للالتحاق بهذه الكليات, وهو الامتحان الذي اعلن ان وزير التربية والتعليم قد اصدر قرارا بإلغائه. إن فكرة امتحان القدرات الفنية جاءت اساسا لقياس مدي توافر الموهبة أو علي الأقل الاستعداد الفني لدي الطالب, فهما شرط للقبول بإحدي هذه الكليات, ومعروف أن عدد الموهوبين أو ذوي الاستعدادات الفنية محدود للغاية في كل زمان ومكان, فالموهبة طاقة ابداع استثنائية يمن بها الله علي من يشاء من خلقه, وقد تكشف عن نفسها في سن مبكرة وقد يتأخر ظهورها لعدم توافر الظروف المناسبة للكشف عنها, لاختلاطها بعوامل ومؤثرات تبعدها عن مسارها الصحيح, لذا فإن اكتشاف هذه المواهب لايتأتي بمثل ذلك الامتحان من خلال رسم بالقلم الرصاص حول موضوع معين كمواضيع الانشاء, أو من خلال تصميم زخرفي أو تصميم لغلاف كتاب, بينما هو غارق لأذنيه في اداء امتحانات نظرية مضنية, فمن أين يأتيه الاحساس بالفن الجميل؟.. وكيف يتدفق من وجدانه الاحساس الفني الذي لابد منه لتنفيذ اللوحة؟.. اضف الي ذلك ان القيام بتصميمات زخرفية أو جرافيكية من طالب في عمر يناهز17 عاما أمر لايخلو من التعسف خاصة أنه لم يسبق له التمرين عليها.. وتصل الشكلية في هذا الامتحان الي حد العشوائية وتوافر الحظ, تبعا لمن سيقوم بالحكم علي رسم الطالب, حيث لاتوجد لدي المصححين لعشرات الآلاف من الاوراق المقدمة معايير منهجية لقياس مستوي الموهبة: فهل هي المهارة في الرسم بشكل يطابق عناصر الطبيعة والنسب التشريحية والمنظور الهندسي والتجسيم بالظلال؟ أم هي أناقة الرسم ودقة المحاكاة لتفاصيل الواقع الي درجة الحسوكة؟. أم هي الاحساس بالبناء الفني عن طريق ترابط العناصر وحبكة التكوين؟.. أم هي القدرة علي التعبير العفوي عن مشاعر الطالب بحس طازج ولو لم يتقن محاكاة الطبيعة؟.. أم هي توقد الخيال لديه الي درجة ابتكار اشكال وعلاقات فنية لانظير لها في الواقع؟ ولعل أغلب الحالات التي يكتب لها النجاح في الامتحان هي من النوعين الأول والثاني, فيما يخرج من السباق خاسرا أصحاب الانواع الثلاثة الاخيرة, علما بأنه تكمن فيها كل مقومات الموهبة, أما العناصر المهارية في النوعين الأولين فسوف يتمرن عليهما الطالب لمدة خمس سنوات بعد التحاقه بالكلية, بينما يصعب الي حد الندرة ان يكتسب بالتمرين مقومات التعبير والابتكار التي يتمتع بها الموهوبون بالفطرة من الانواع الاخيرة. ومع ذلك.. فهل كل من يكتب له النجاح في امتحان القدرات ولو كان متفوقا يكتب له ايضا الالتحاق بالكلية التي يختارها؟.. لا.. لأن الفيصل في النهاية هو مجموع الدرجات التي يحددها مكتب التنسيق للقبول بكل كلية, وقد اصبحت بعض كليات الفنون في السنوات الاخيرة من كليات القمة التي تتطلب مجاميع مرتفعة.. وهكذا تنكسر فوق هذه العقبة مواهب بلا حصر, فيما ينجح في اجتيازها الاقل موهبة لحصولهم علي المجموع المطلوب. هذا فوق مضاعفة اعداد المقبولين تنفيذا لسياسة القبول باستيفاء شرط المجموع. فماذا كانت النتيجة؟ كانت انخفاضا متلاحقا للمستوي الفني بجميع كليات الفنون, وتحولها الي ما يشبه المدارس الصناعية المكتظة باعداد تفوق قدرتها التعليمية عدة اضعاف, فهم يفتقرون الي المساحات المناسبة للدراسة, والي العدد الكافي من الاساتذة, فوق ندرة القدرات الابداعية لدي الطلبة مما يستثير في الاساتذة الرغبة في احاطة الموهوبين بالرعاية, بل قد تجد اعدادا كبيرة بينهم كارهين لدراستهم, إما لفقر مواهبهم او لوقوعهم ضحية لمن يروجون لمقولة ان رسم الاشخاص حرام, وقد ازدادت هذه المقولة انتشارا في السنوات الاخيرة, وربما وجدت من بعض الاساتذة من يشجعها.. اضف الي ذلك جمود المناهج التعليمية المقولبة داخل قوالب يصب فيها الطلبة منذ مائة عام, اي منذ انشاء مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة, حيث قامت علي مناهج الأكاديميات الاوروبية في القرن ال19 وكرست علي ايدي اساتذة اجانب, بهدف تنمية مهارات النقل من الطبيعة وليس طاقات الابتكار, دون الوضع في الاعتبار طبيعة الحياة المصرية بامتدادها التاريخي وتواترها الحضاري. وادي ذلك كله الي زيادة الفجوة اتساعا بين الفن والمجتمع, والي ارتفاع نبرة السخرية لدي الشعب من كلمة الفنون التشكيلية وهي تحملها كل مظاهر الشطط الفني, وتظلم بذلك بعض الاتجاهات القيمة في الفن الحديث علي ايدي اصحابه من الفنانين الناضجين, ويأتي ذلك ضمن عملية متشابكة العوالم جعلت الفن والفنانين منعزلين عن محيط التفاعل والتأثير في المجتمع.. وتلك قضية أخري. فماذا كان النظام المتبع للقبول بكليات الفنون قبل ربطه بامتحان القدرات في الثانوية العامة وبمكتب التنسيق؟.. لقد كان حتي منتصف سبعينيات القرن الماضي تقريبا يسمح بتقدم الراغبين للالتحاق مباشرة الي اية كلية يريدونها بغض النظر عن مجموع درجاتهم, حيث يؤدون امتحانا عمليا يستمر خمسة ايام, ويتم اختيار الموهوبين الحقيقيين بواسطة اساتذة الكلية الذين يمكنهم بسهولة التقاط الدر من القواقع, لهذا كانت اجيال الخريجين قبل ذلك التاريخ تطرح نسبة كبيرة من الفنانين المتميزين. أعود الي الخبر الذي بدأت به المقال, حيث تصورت انه يعني إلغاء امتحان القدرات الذي يؤهل كليات الفنون, ومن ثم: العودة الي نظام الاختبارات العملية بداخلها, خاصة ان بعض هذه الكليات قد نجح بجهود ذاتية في العودة اليه, وان بقي قائما شرط مجموع الدرجات.. فاذا بي اكتشف أنني كنت واهما, اذ تبين لي ان إلغاء امتحان القدرات يقتصر علي المتقدمين لقسم العمارة وحده بكلية الفنون الجميلة, نظرا لأنهم حاصلون علي درجات مناسبة في مادة الرياضة بالثانوية العامة تؤهلهم لدراسة العمارة.. وهكذا ازداد الامر التباسا وغموضا.. فإذا كان يكفي للالتحاق بقسم العمارة توافر الدرجات في مواد التخصص بغير اشتراط الاستعداد الفني.. فما الحكمة في بقائه تابعا لكلية الفنون الجميلة؟.. وهل يختلف الامر لو نقل الي كلية الهندسة حتي لو كان له من المناهج ما يميزه عنها؟ وما مصير اقسام الفنون, من تصوير ونحت وجرافيك وديكور في ظل استمرار نظام الامتحان العقيم للقدرات في الثانوية العامة ونظام القبول بمجموع الدرجات؟