أنا عائد من باريس بعد عشرة أيام ظننت أني سأبتعد فيها عن السياسة التي غرقنا جميعا في خضمها منذ بداية العام الذي نودعه هذا الشهر, ولانزال غرقي في هذا الخضم الطامي, وسوف نواصل الغرق فيه في العام الجديد, وفي الأعوام التي تليه. فقد انهارت السدود التي أقامها الطغاة بيننا وبين وطننا, بل بيننا وبين أنفسنا, وأعلوا بناءها, وأقاموا عليها الحرس والعسس, حتي لم نعد نري, ولم نعد نسمع, ولم نعد ننطق, ولم نعد نحس, وفجأة وقع الزلزال, وانهارت السدود, وخرت الحصون, واندفعت الجماهير الي ميادين التحرير, وخرجنا من حصار الطاغية الي حصار آخر لم نكن نحسب حسابه من قبل, هو هذه الأسئلة التي تلاحقنا, وهذه المخاطر التي تترصدنا وتهددنا بطغيان جديد أشد وأنكي, أو هو بالأحري طغيان قديم عتيق كنا ظننا أن زمنه مضي وانقضي, وأنه ذهب مع الذاهبين وانقرض مع المنقرضين, ولم تبق منه إلا رسوم وأخبار نقرؤها عن قياصرة بيزنطة, وبابوات روما, وخلفاء بني أمية, وبني العباس, وبني شركس وسواهم ممن اغتصبوا السلطة واستعبدوا البشر باسم الدين, وها نحن نواجه هذا الطغيان من جديد, ونري سحبه السوداء في اليقظة, وكوابيسه الخانقة في المنام! قلت لنفسي أذهب الي باريس أستريح قليلا من هذا العناء, وألقي نظرة أو نظرات علي ما تقدمه مسارح باريس في موسمها الحالي, وما تعرضه قاعاتها ومكتباتها من الإنتاج القديم والجديد في الفن والفكر والأدب. ومن الطبيعي أن يشعر مثلي نحو باريس بقرابة حميمة, ليس فقط لأنها استقبلتني باحترام يوم رحلت إليها قبل سبعة وثلاثين عاما من اليوم, ورحبت بي في صحفها, وفتحت لي جامعاتها ومعاهدها العليا أتعلم فيها وأعلم, بل أيضا وأولا لأن العقل المصري الحديث كله تربي في باريس ورضع من لبانها وتمثل نفسه وعرف رسالته, واذا كان الطهطاوي, وعلي مبارك, ومحمد عبده, ومصطفي عبدالرازق, وعبدالرزاق السنهوري, وأحمد شوقي, وهيكل, وطه حسين, وتوفيق الحكيم, ومحمد مندور, وجورج أبيض, وزكي طليمات, ومحمود مختار, ومحمود سعيد, ودرية شفيق, وسواهم, وسواهم يدينون لباريس بكثير مما قالوا وما صنعوا, واذا كنا قد عرفنا نحن المصريين أنفسنا, واكتشفنا تاريخنا العريق, وقرأنا لغتنا القديمة, واستعدنا حضارتنا بعد أن نسيناها وجهلناها اذا كنا قد حققنا هذا كله بفضل جهود الفرنسيين فنحن ندين لباريس بالكثير, ونشعر نحوها بهذه القرابة الحميمة التي لا تصلنا بالمثقفين الفرنسيين وحدهم, بل تصلنا أيضا بالمثقفين المصريين الذين ذكرتهم, وكيف نقرأ طه حسين دون الرجوع لديكارت؟ وكيف نفهم هيكل والسنهوري دون أن نقرأ جان جاك روسو؟ هكذا وجدتني في باريس, أتأمل ألوانها وأخترق أضواءها وأطالع ما جاء في صحفها عن الإصدارات الأدبية الجديدة وعن العروض الفنية المختلفة. والمساحة التي أكتب فيها لا تتسع لإحصاء العروض المسرحية وحدها, فمسارح باريس أكثر من أن يحصيها الزائر أو يلم بما تعرضه, ونحن لا نعرف من مسارح باريس إلا الصروح التي يتردد الحديث عنها كالكوميدي فرانسيز الذي تخصص في عرض الكلاسيكيات ومنها مسرحية موليير مدرسة الزوجات التي تتحدث عن الأساليب المضحكة التي كان يلجأ إليها الرجال في الماضي, ولايزال بعضهم يلجأ إليها في الحاضر, ليضمنوا لأنفسهم زوجات مخلصات مطيعات الي حد التسليم والانصياع الكامل والعجز عن المقاومة, وهو ما كان يؤدي بهن الي عكس ما كان يطمع فيه أزواجهن الذين حولوا أنفسهم الي حراس غلاظ شداد لنساء قاصرات ساذجات لا يبلغن أبدا سن الرشد ويستطيع أي عابر ماكر أن يلعب بمشاعرهن ويكسب ودهن! هذه المسرحية التي سيحتفل الفرنسيون في ديسمبر القادم بمرور ثلاثة قرون ونصف القرن علي أول عرض لها, إذ قدمت لأول مرة في ديسمبر من عام ألف وستمائة واثنين وستين أقول إن مسرحية موليير مدرسة الزوجات تعرض الآن ومنذ التاسع عشر من الشهر الماضي علي خشبة الكوميدي فرانسيز. ولقد ظل جمهور المسرح في أنحاء العالم يضحك طوال القرون الماضية من حماقة الزوج أرنولف وبلاهة زوجته أنييس التي لم تحمها تربيتها في الدير ووضعها في حراسة خدمها الريفيين من الوقوع في غرام هوراسي, لكن المهموم مثلي بحاضر بلاده وبمستقبلها الملفع بالغيوم لا يستطيع أن يتجاهل المعني السياسي لمسرحية مدرسة الزوجات, فالسلطة إما أن تتأسس علي الحرية, وإما أن تتأسس علي القهر والطغيان. المواطن في النظم الديمقراطية إنسان حر عاقل, وعلي الدولة أن تتعامل معه علي هذا الأساس, وأن تزوده بما يمكنه من أن يفكر لنفسه, ويختار لنفسه, ويتحمل نتائج اختياراته, ويخضع في ذلك لحكم القانون الذي يضعه المواطنون لأنفسهم, ويحتكمون في وضعه لمنطق العقل ومقتضيات الواقع, ويقفون أمامه جميعا سواء. أما في نظم الطغيان, فالمواطن كائن هش قاصر عاجز عن أن يميز بين الصواب والخطأ وبين النافع والضار, فلابد من وصاية أو سلطة أبوية قاهرة تقبض علي الشعب وتلقنه ما يقول, وتملي عليه ما يفعل, مدعية لنفسها ما يدعيه لأنفسهم الذين يغتصبون السلطة, ويستخدمون الرشوة والعنف, ويخلطون السياسة بالدين, كما فعل أرنولف الذي أدخل أنييس الدير قبل أن يتزوجها لتتعلم فيه كيف تستسلم لزوجها وتنصاع! هكذا ذهبت الي المسرح لأهرب من السياسة فوجدت نفسي غارقا فيها. وليس من المنتظر بالطبع أن أتوقف عند بقية مسارح باريس, فهي تعد بالعشرات, كما أسلفت, وكلها يستحق التوقف عنده, سواء فيها المسارح القومية الكبري أو المسارح الصغيرة التي يقدم بعضها عروضا لا تقل قيمة عن عروض الكوميدي فرانسيز والأوديون, وقد كنت أتمني أن أصل إلي باريس في الوقت الذي كان فيه مسرح نانتير أماندييه يعرض المسرحية المأخوذة من رواية شيكاغو للكاتب المصري اللامع علاء الأسواني لأحدثكم عنها, لكني وصلت الي باريس بعد انتهاء العرض الذي شاهدته ابنتي ريم وحدثتني عنه بفخر وإعجاب, وقد ترجم رواية علاء الأسواني المستعرب الفرنسي جيل جوثييه, وهو صديق عزيز, وأعدها للمسرح وأخرجها جان لوي مارتينيللي وعرضت في شهري سبتمبر وأكتوبر الماضيين تحت عنوان وددت أن أكون مصريا!, ويبدو أنه مستلهم من خطبة مصطفي كامل التي يقول فيها: لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا!, ألا ترون في هذا دليلا علي اهتمام الفرنسيين بنا واحترامهم لثقافتنا؟! فإذا كان قد فاتني أن أشاهد العرض المأخوذ من رواية علاء الأسواني, فقد شاهدت في مسرح الأتيلييه في البيجال عرضا اختصر الحديث عنه في السطور الباقية: عرض عجيب مدهش, لا قصة فيه تبدأ وتنتهي, ولا حوار, ولا ستار, وإنما هو مونولوج أو حديث مفرد متصل تقدمه ممثلة واحدة تحكي فيه عن نفسها وعن عملها, وعن زوجها الذي مات, فهي كاتبة, وزوجها أيضا كاتب, وهي تحدثنا عن حياتهما معا كيف تجري, وعن علاقتهما, وكيف قضي أمسيته الأخيرة معها علي مائدة الطعام, وماذا طلب, وماذا شرب, وماذا قال, وكيف سكت فجأة قلبه؟ وقائع عادية تقع للجميع وتحدث كل يوم, وتقدم باللغة التي يتخاطب بها الناس في البيت والشارع, غير أن البطلة الوحيدة جوان ترحل وراء ما تقول, وتستبطن ما حدث, وتستعيده وتقدمه علي نحو يستدعي لدينا ما تتحدث عنه فنعيشه معها كأنه حدث لنا, ونكتشف من خلاله هذا البعد المأساوي المستور في حياتنا اليومية, حين يتحول فجأة كل شيء الي ذكري, أي حين يضيع كل شيء, ويستعصي مع ذلك علي الفقدان, وحين نواجه وحدنا مأساة حياتنا ونعجز عن أن ننسي, وحين ندرك فجأة أننا لا نستطيع أن نواصل وجودنا إلا بوجود ما فقدناه, وأننا حين فقدناه فقدنا أنفسنا! هذا العرض الذي يتحدث عنوانه عن تفكير أو حلم سحري أخذ نصه من رواية لكاتبة أمريكية اسمها جوان ديديون, وقدمته نجمة السينما والمسرح الفرنسية فاني أردانت التي استطاعت أن تأسر جمهورها ساعتين متصلتين أثبت فيهما هذا الجمهور المثقف أن حضوره في العرض لا يقل فاعلية عن حضور الفنانين الذين قدموه! المزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي