ليس وداعا.. هل يرحل الزاهدون؟! إنهم يلوحون فقط بالوداع.. ينتقلون من مقام إلي مقام ويرفضون الثرثرة.. إنهم يكتبون ويهمسون ويتصوفون فيزهدون وينشرون بضعة أسئلة فوق قبر الحقيقة.. وهم يرتلون أوراد المحبة بهمس الجنون الزاهدون هم رقصة الأفلاك إذ تفاجئها الرياح فتصمت كي تصيخ السمع للموسيقي, لحفيف الروح فوق أكتاف البدن هل يموت الذين يكتبون وينقشون أثرهم في صندوق الدنيا كي يبهجوا القراء بالحكايا.. إنهم عاشقون, صامتون ومتكلمون, فلاسفة للبساطة, بسطاء كالفقراء حول قبة ولي يسمونه الحقيقة إنهم ذلك السؤال الذي لا يبين ولا يموت ويبقي معلقا مضيئا فوق الرؤوس وفي القلوب. أحمد بهجت.. علمتنا السؤال فابتهج بما غرست ونم قرير العين في أرض الحقيقة حكواتي من آخر الدنيا علي كتفه صندوق الدنيا يتنقل من قهوة لقهوة واتفرج ع الدنيا اللهوة ستين سنه فاتوا علي سهوة زي ما بتفوت سنين تانية حكواتي الفجر نده له والزهر وهب كل نداه له أهل الكهف الصابرين أهله عمري ما شفته حزين في حياتي حكواتي من آخر الدنيا.. هذه الكلمات التي صاغها محمد بهجت عن والده تكشف السمة الأساسية للراحل الكبير. فهو ذلك الكاتب الساخر ابن النكتة شأن كل المصريين, وهو الصابر الراضي الذي لا يدركه الحزن لانه في مقام الرضا. أحمد بهجت نموذج مصغر لمصر, لشخصية مصر التي يتدين أهلها ببساطة لا تشدد فيها ولا غلظة, فهو المحب العاشق للتصوف, المحافظ علي روح السخرية وكأنه تلخيص لمصر في صندوق الدنيا الذي يضم سحر الحكايا. فأحمد بهجت الذي يكتب منذ منتصف الخمسينيات ليس واحدا إذا لخصنا الإنسان بعناوين ما يكتب, إذ لا يمكن أن يكون الكاتب الساخر الذي أصدر مذكرات زوج و مذكرات صائم هو نفسه الكاتب الرصين الذي يكتب برشاقة قصص انبياء الله. ولكن إذا لخصنا الكاتب بأسلوبه فإن أحمد بهجت واحد وليس منقسما.. هو نفسه الساخر الكبير والمتصوف الكبير الذي يكاد يلخص شخصية مصر او شخصية المصريين لانه يكتب برشاقة وبساطة وعمق مستفيدا من ملكاته الابداعية وخبراته الصحفية الطويلة التي امتدت لاكثر من نصف قرن. يقول محمد بهجت عمري ما شفته حزين ومحمد صادق فيما يرويه عن أبيه, ولكن الحزن عرف طريقه إلي ذلك الشخص الباسم دائما, فكلنا يعرف أن حزنا عميقا احتل مساحة كبيرة من صندوقه عندما تردت أوضاع مصر, وعندما فقد رفيقة دربه المبدعة سناء فتح الله, فأغلق الساخر ستارة السخرية ودخل شيئا فشيئا في مواقف التصوف ومخاطباتها, كما فعل النفري.. وصارت الكتابة همسا صوفيا وتجليا لمقامات المحبة الإلهية. وصار تصوفه كما يجب أن يكون التصوف حرقة في القلب لا خرقة في الجسد كما كان يقول دائما.. فالتصوف عنده تخلية وتحلية وفق تعبيره الذي يعني تخلية القلب مما سوي الله وتحليته بالقرب إلي الله.. وقد شف بهجت بالمحبة فشاف وعرف وقال إن الأدب العظيم يبحث عن الحقيقة, وكلما ارتقي الفنان, اقترب من الله. وكلما اقترب.. تحير وزادت دهشته, وسجدت روحه.. عبارة صاغها فلخص بها سيرته ككاتب بدأ العمل صحفيا بجريدة أخبار اليوم(1955), ثم مجلة صباح الخير(1957) قبل أن ينتقل إلي الأهرام عام1958 بدعوة من رئيس تحريرها آنذاك الأستاذ محمد حسنين هيكل, ليصبح واحدا من أفضل صحفييها وكاتبا متميزا من كتابها الذين يفتح قراء الصحيفة صفحتها الثانية بحثا عن مقاله الشهير المعنون دائما صندوق الدنيا.