حينما أكتب عن أحمد بهجت، الصحفى الشهير بالأهرام، فإننى أكتب حكاية عمرى فى الوقت نفسه، فلطالما كنت الإلكترون العاشق الذى يدور حول النواة الراسخة المضيئة. أحمد بهجت الرجل الذى عبأ الدنيا فى صندوق ثم وضعه تحت أنظارنا، حروفه سبائك ذهب ودموعه تشتبك بحروفه. لم يكن مقاله عمودا فى جريدة، بل قطعة من روح، ثغرة إلى قلب الوطن، قبلة تداوى الجراح، وردة تلون الصباح. أحمد بهجت الصائم الأبدى، والفارس النبيل فى زمن الحب، العاشق متوهج العشق، والصوفى متحقق الصوفية، والساخر الذى لا تؤلم سخريته. أحمد بهجت الرجل الذى شكل عالمى، ولون صباحى بكتابات أسعدتنى فى رحلة العمر. درس الكتابة الحميمة لكل عشاق الحرف، يدخل كل بيت، يقتحم كل قلب، يستعمرنا بلا مشاة ولا مدافع أسطول. أى ذكريات تعمر الآن روحى، وشجن يعبر ملامحى!. فى هذا الوقت من الثمانينيات كان أحمد بهجت فى عنفوان رجولته، يشع رقة وعشقا صوفيا. يكتب لمصر كلها. ينقلنا إلى أزمنة حب لم نعشها، وقصص غرام لم نمر بها، وفرسان لا يكفون عن النبل، وعشاق لا يكفون عن العشق. يفعل كل ذلك بقلم أبيض وقلب أبيض وحروف بيضاء. ماذا أكتب الآن من جملة ذكرياتى؟، هل أذكر الفتى النحيل الذى كنته، ويبدأ صباحه بقراءة عموده اليومى «صندوق الدنيا»!. وجه أمى المستدير- المؤطر بطرحة الصلاة البيضاء - تقرأ مقاله فى انهماك غافلة عن فنجان الشاى الذى برد. قصة مسرور ومقرور التى تابعناها كلنا. بشر الحافى الذى ترك ملكه وغادر قصره حافيا مهرولا خلف عابد زاهد!، أم ذلك الكتاب المدهش «مذكرات صائم» الذى أدرج فيه سفرا لا مثيل له بين أسفار العاشقين، قصة حبه الطويلة والمؤلمة لامرأة يبدأ اسمها بحرف النون: الهلال الذى تعلقت فوقه نقطة هى البداية الأولى فى خلق العالم. النقطة الوحيدة التى بدأت عندها حسرات المحبين وانتهت عندها آمال العاشقين. أى ذكريات أستبقى وأى ذكريات أدع؟. هل هو اليوم الذى تجرأت فيه على الاتصال بجريدة الأهرام - وأنا بعد شاب صغير - وذلك الصوت الروتينى الملول الذى أعطانى هاتف منزله فى لا مبالاة، والرجفة التى شعرت بها وأنا أطلبه. كيف سقط قلبى فى قدمى وأنا أطرد حيائى وأستجمع شجاعتى!، وكيف صعدت روحى إلى السماء السابعة حينما رحب بى ثم دعانى لزيارته. عام 1987.. الليل الشتائى يسقط مبكرا مع برودة منعشة فى الهواء، والشاب الحالم الذى لا يتجاوز عمره خمسة وعشرين ربيعا يبحث عن مسكن كاتبه المفضل قرب نفق العروبة. قدماه لا تحملانه كعودى مكرونة طرى وهو يصعد الدرج المفضى إلى خلوته المختارة، والنشوة الروحية المدهشة التى أحس بها وهو يدخل بيته العامر المجلّد بالخشب والذى تحول لمكتبة عملاقة تضم عشرات الألوف من الكتب. والترحيب الدافئ الذى غمر به فتى فى عمر أبنائه لا يملك إلا قميصه وأحلامه. ذكريات عمرى بأكمله تتسابق الآن فى تلك اللحظة. زياراتى المتكررة - عبر أعوام- إلى مسكنه، سيارته الجولف الزرقاء الرابضة تحت منزله تطمئننى أنه موجود. فرحتى التى لم تخب رغم تعدد لقاءاتنا. فرحة أمى ورضا أبى وزهوى بين أصدقائى، أصدقاؤه الذين يملأون جنبات بيته دفئا وأنسا، الضحكات الهانئة تتناقلها الجدران فيرتد السرور إلى السرور. وحيرته النبيلة بين كتابة مقاله والترحيب بهم. والعشاء الدسم الملىء بالتوابل الذى نملأ به أطباقنا عدة مرات. ابناه المهذبان «خالد» و»محمد» يتألق صباهما كبريق لؤلؤة خرجت من المحارة لتوها، وكيف انكسر قلبى حين شاهدتهما بعد عشرين عاما متأملا ما فعله الزمان بى وبهما!. أحمد بهجت نجمى المفضل وكاتبى الرائع الذى انقطعت عن زيارته - بعد أن كبرت - حياء من اقتحام عزلته بهذا الشكل المتكرر. ثمة أشياء نفعلها فى غفلة الشباب ولا نجسر على تكرارها فى زمن الكهولة. رغم ذلك ظللت مشدودا إليه بحبل سرى من القلب إلى القلب. سيدى.. يا أبى الروحى.. كنا بين يديك قطعة من العجين الطيّع، بللته بدمع الحب، خمّرته بحرارة التنهيدة، ثم أنضجته فى فرن العشق، فصارت قلوبنا طازجة كقطعة خبز ساخن. أقول لك فى خلوتك المختارة بعد أن تقدم العمر بى وبك: أسعد الله مساءك كما أسعدت أيامنا، وجزاك عنا خيرا، وشفاك وعافاك، ومتعك بالصحة والعافية، ونعمة أعرف أنك أدمنت مذاقها: طول السجود.