من منظور التفكير الإيجابي في المستقبل, أقول إن شعار المواطنة هي الحل, كما تناولته في مقالات سابقة, يعني من منظور الحقوق الاقتصادية للمواطنة: حماية الحق في الأمن الاقتصادي, وحماية الحق في التنمية, وحماية الحق في السيادة الاقتصادية الوطنية; حتي تكون مصر للمصريين. وأضيف هنا حق الأمة, الذي لا يقبل التفريط, في اختيار نظام اقتصادي واجتماعي يعزز حقوق المواطنة; بتحقيق الكفاءة الاقتصادية وتسريع التقدم الاقتصادي وضمان العدالة الاجتماعية. وأزعم أنه بغير إقامة نظام اقتصادي واجتماعي جديد; يعزز حقوق المواطنة ويرتكز الي وفاق وطني, فان أمامنا سكة ندامة. ولنتذكر أن الحقوق التي عبرت عنها شعارات الثورة, لن تتوقف طلائعها الشابة حتي تنتزعها, وأن مطالب الحركات الإحتجاجية الإجتماعية, لن تخمد جذوتها حتي تلبي. وبغير بناء نظام اقتصادي كفء يبني إقتصادا متقدما وغنيا, قد تنفجر ثورة الجياع; نتيجة قصور الموارد اللازمة لتصفية الفقر المطلق بتوفير حد أدني للأجور يضمن حياة إنسانية كريمة, وتقليص الفقر النسبي بمضاعفة دخول وتحسين نوعية حياة المصريين. وأتصور أن النظام الاقتصادي والاجتماعي في دولة المواطنة لابد وأن يكون نقيض نظم حرمت المواطنين من عوائد تعظيم الاستثمار والإنتاجية والتنافسية, ولم تثمر سوي عدالة توزيع الفقر المطلق والنسبي بين الأغلبية. أقصد نظم بيروقراطية الدولة التي كرست التخلف الاقتصادي و إفقار الأمة ونظم رأسمالية السوق الحرة التي كرست الإستغلال الاجتماعي و إحتكار الثروة ونظم اشتراكية إقتصاد الأوامر التي أهدرت الكفاءة الاقتصادية وثروة الأمة. والواقع أنه ليس ثمة وصفة جاهزة لنظام اقتصادي, تصلح لكل زمان ومكان, وان سيطرة الأيديولوجيين علي القرار الإقتصادي السياسي لم تجلب سوي الكوارث, وأهدرت حقوق المواطنة! وفي استشراف النظام الاقتصادي الإجتماعي لدولة المواطنة ينبغي التعلم الإيجابي من دروس سقوط نظم الأصولية الاقتصادية المعاصرة, التي انطلقت من وصفة مذهبية جاهزة وجامدة, تدعي أنها نهاية التاريخ. أقصد اقتصاد الأوامر الشيوعي, وفق وصفة كارل ماركس, التي تداعت بانهيار الإتحاد السوفييتي السابق! واقتصاد السوق الحرة وفق وصفة آدم سميث, التي تتداعي منذ انفجار الأزمة المالية العالمية. وأسجل أولا, أن كفاءة وعدالة النظام الاقتصادي والاجتماعي هي أساس شرعيته. وهكذا, فان اخفاقات الرأسمالية تفسر التحول للاشتراكية, من قبل, بينما فرضت إخفاقات اقتصاد الأوامر الانتقال مجددا الي اقتصاد السوق, من بعد! ووفر هدر كفاءة النظام الاقتصادي قوة الدفع للإنقلابين! بيد أنه سواء قبل صعود الاشتراكية أو بعد سقوطها, تأكدت نظريا وتاريخيا ضرورة تدخل الدولة لضبط إخفاق السوق, بحماية العدالة الاجتماعية وتعظيم الكفاءة الاقتصادية. وثانيا, أن عدم كفاءة اقتصاد الأوامر المركزي الإشتراكي قد تجلت في حصاد لم يتعد توزيعا عادلا للفقر, بتجاهل ترشيد استخدام الموارد النادرة لضمان إشباع الحاجات المتزايدة, حين أهدر ضرورة رفع إنتاجية الاستثمارات وحفز تنافسية المؤسسات! وأما عدم كفاءة اقتصاد السوق الحرة الرأسمالي فقد تجلت في عدم كفاءة استخدام الموارد, حين طغي الإحتكار علي المنافسة, واختل توزيع الثروة والسلطة. وثالثا, أن الاصلاح الاقتصادي ليس غاية في ذاته, وإنما مجرد وسيلة لتعظيم كفاءة تخصيص الموارد وتأمين عدالة توزيع الدخل. وكان هدر النظام السابق هذه الغايات وراء حصاد إصلاح اقتصادي لم يثمر سوي تكريس التخلف والتبعية وإثراء القلة وإفقار الغالبية. ومن حيث وسائله, يتحقق الإصلاح الاقتصادي بسياسات وبرامج تستوجب المراجعة دوما, لأنه لا نهاية للتاريخ عند نموذج ما ونقطة ما للتقدم, ولأن الحياة تولد بالضرورة تناقضات جديدة تخل بالتوازن بين غايتي الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية! ورابعا, أن كفاءة وعدالة النظام الاقتصادي والاجتماعي هي شرط تكافؤ الفرص في الحراك الاجتماعي, والتطور الديموقراطي السلمي, وتفعيل حقوق المواطنة, وتعميق الولاء والانتماء للوطن. وقد حققت الرأسمالية انتصارها علي الشيوعية حين تجاوزت أيديولوجية السوق الحرة! ولم تثمر سوي تبديد واسع للموارد ومعاناة هائلة للفقراء; حين روج أنصارها مجددا لوهم أن يد السوق الخفية تحقق المصلحة العامة بفضل حافز المصلحة الأنانية للفرد! وخامسا, أن نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي, جدير بالتعلم منه. فقد قدم قصة نجاح في بناء اقتصاد سوق; لكنه اجتماعي ومنضبط وصناعي ومتقدم! وجسد طريقا ثالثا, نشأ وتجدد استنادا الي توافق ديموقراطي بين جميع القوي السياسية والمجتمعية, ومزج بروح عملية بين ضرورات: عمل السوق وتدخل الدولة, وحماية العدالة الاجتماعية وحفز المبادرة الفردية, والتحرير والضبط, وحماية المنافسة ومكافحة الإحتكار, والإنفتاح الخارجي والسيادة الوطنية..إلخ. وسادسا, أن رجل الأعمال يسعي, وينبغي أن يسعي, الي تحقيق أقصي ربح ممكن; لأن هذا ما يميز مشروع الأعمال عن العمل الخيري, ولأن تعظيم الربح يوفر حافز رجل الأعمال, المبادر والمنظم والمخاطر والمبتكر, ليكون فاعلا لا غني عنه في قيادة التنمية والتصنيع والتقدم. لكن استهداف الربح الفردي, وهو منطقي وتاريخي ومشروع, لا ينبغي أن يتعارض مع التزام رجل الأعمال بواجبات المسئولية المجتمعية والوطنية وتحقيق ربحية المجتمع. وسابعا, أن تكلفة بناء النظام الاقتصادي الإجتماعي لدولة المواطنة تتقلص بوضوح الغايات النهائية وتجنب الشراك الخداعية. ويتحمل الإخوان المسلمون, خصوصا, مسئولية إعلاء قيم ومقاصد ومباديء الاسلام كسلاح للتقدم; بالتركيز علي تنمية الاقتصاد الحقيقي, وخاصة بتسريع وتعميق التصنيع واللحاق باقتصاد المعرفة; ويتحمل الإسلاميون, عموما, مسئولية نبذ المزايدة بالغلو من قبل الفقهاء والشيوخ بما يهدد المستقبل الاقتصادي. وأسجل, أولا, أن الأغلبية المحتملة للإخوان والسلفيين تقود الي سكة السلامة إن أعلت قيم ومباديء ومقاصد الاسلام الواجب التحلي بها, والتي تمثل سلاحا للتقدم بتحقيق غايات الإعمار والعدالة, أو الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية. أقصد حين يسعي المسلم في مجال الاقتصاد الي العمل والعلم والعدل والإدخار والإعمار والإتقان..إلخ, وحين ينبذ المسلم الغش والظلم والربا والإسراف والاحتكار والإكتناز..إلخ. وثانيا, أن التحلي بأخلاق الإسلام لا يعني إقحامه في كيفية إدارة أمور الإقتصاد العملية والمتغيرة. فالحديث عن اقتصاد اسلامي لا محل له, لأن علم الاقتصاد, باعتباره علم التخصيص الرشيد للموارد من أجل إشباع الحاجات, يطلبه المسلم ولو في الصين الشيوعية. ولأن النشاط الاقتصادي, في الإنتاج والتوزيع والتمويل, هو نفس النشاط من مدخلات ومخرجات وبيع وشراء. ولأنه في النظام الاقتصادي يبقي المسلم مسلما, مهما تغيرت أوزان وأدوار السوق والدولة, والقطاع العام والقطاع الخاص.. إلخ.. ومن هنا الإجتهادات باشتراكية الإسلام ورأسمالية الإسلام والنظام الإسلامي المختلط. وأخيرا, أن مقاصد الإعمار والعدالة لن تتحقق بمخاطر وعواقب هدر موارد السياحة الترفيهية بزعم منع' العري' والتاريخية بهوس حجب التماثيل, وقمع حرية الفكر والإبداع والبحث العلمي, وانتهاك الحريات الشخصية, واستبدال عقوبات السجن بالعقوبات البدنية, وتقسيم العالم الي دار اسلام ودار حرب, وتهديد استقرار الجهاز المصرفي بوصم الفائدة بأنها ربوية, وإضعاف القدرة الإقتصادية للأمة بنزيف عقول وهروب أموال المصريين المسيحيين خشية التمييز بسبب الدين!! ويبقي التهديد الأخطر وهو غياب إدراك حتمية وأسبقية التصنيع!! المزيد من مقالات د. طه عبد العليم