مرت ستة عقود علي القضية الفلسطينية دون أن تتحرك إلي الأمام, ولو قيد أنملة, بل العكس هو الصحيح, فالقضية بجوانبها السياسية والاجتماعية والإنسانية في تراجع واضح, فما كان مطروحا في نهاية أربعينيات القرن الماضي أو حتي عقب هزيمة يونيو1967 يعد مثاليا مقارنة بما هو متاح مع بداية هذا القرن, وفي جميع الحالات لم تكن الحلول المتاحة في يوم ما بسبب التأثير العربي في القضية, بل كانت دائما بسبب الأوضاع الدولية, ابتداء بالحلول التي طرحتها بريطانيا عقب هزيمة العرب في حرب1948, وما أعقب ذلك من تداعيات الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفيتي خلال عقدي الخمسينيات والستينيات وخصوصا عقب هزيمة1967, حينما كانت إسرائيل علي استعداد للانسحاب من الأراضي التي احتلتها في1967, مقابل إقامة سلام دائم مع الفلسطينيين والعرب. ومن خلال الصراعات العربية العربية والفلسطينية الفلسطينية راحت السياسة الإسرائيلية تحدد أهدافها بوضوح, وتركت للعرب حرية الكلام وإصدار البيانات الإعلامية التي استهدفت تهدئة الشعوب العربية التي انتفضت, وهي لا تملك إلا الغضب بينما راح الإعلام العربي يمارس دوره السلبي بإقتدار في محاولة لامتصاص تلك الثورات هنا وهناك. لقد عولنا كثيرا علي الموقف الأمريكي الذي راح يبدي اهتماما ظاهريا بالقضية مع بداية كل حقبة رئاسية لا يلبث هذا الاهتمام أن يتراجع مع نهاية كل حقبة, مع التلويح بحل للقضية مع بداية كل فترة رئاسية جديدة, بعد أن أصبحت الولاياتالمتحدةالأمريكية بمثابة قبلة للسياسيين الفلسطينيين والعرب من ذوي الياقات ناصعة البياض, وفي جميع الحالات لم نجن إلا علقما لأن الواقع علي الأرض الفلسطينية كان شيئا مختلفا, فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة راحت تنفذ برامجها علي الأرض رغم مظاهر الاختلاف بين القوي الإسرائيلية التي نحن أحوج ما نكون إلي جماعة أخري لا تقبل الانسحاب أو التراجع, ولا تلقي بنفسها في أحضان السلطة, جماعة جديدة تكون قادرة علي الاقتراب من السلطة ومحاورتها والإلحاح في طرح برامجها ورؤاها لكي تتمكن من إقناعها بضرورة تغيير الثقافة النمطية الضيقة لمصلحة ثقافة الديموقراطية التي تحقق الحرية والحوار السلمي في سبيل شيوع ثقافة العقل وتعظيم دور المجتمع المدني. كل المجتمعات التي قطعت شوطا كبيرا في التنمية والتقدم كان سبيلها في ذلك شيوع الحرية بمعناها الواسع من خلال تشريعات وبرامج عظمت من سلطة العقل علي حساب النص ووفرت كل الضمانات في سبيل أن يفكر الجميع دون قيود علي حرياتهم أو فكرهم. لم يحدث ذلك في العالم لمجرد أن الأنظمة قد ارتضت ذلك بنفسها, وإنما وجدت في مقابلها مفكرين ومنظرين اختاروا أن يواصلوا نضالاتهم حتي لو دفع بعضهم ثمن اختياراته, لكي تحسم المعركة في النهاية لمصلحة الحرية التي ضمنت للجميع حياة حرة كريمة بعيدا عن فكر الخرافة وسلطة الدين أيا كان هذا الدين. اللافت للنظر أن ثقافتنا في تراجع لسبب واضح لدي الجميع, يضاعف من تراجعها هذه الفضائيات الهائلة, التي حشدت برامج وأشخاصا راحوا يستنطقون نصوصا من التراث أقامت خصومة مع الحياة وضاعفت من تدهور العقل وشيوع فكر الخرافة, بل إن حكومات عربية ومؤسسات رسمية في كثير من أقطارنا العربية ساندت هذا الاتجاه لدرجة أنها فوجئت دون أن تدري بأن ما حشدته من فكر قد ارتد عليها سهاما وحرابا قاتلة, ورغم ذلك فلم تستوعب الدرس بعد. إن ما يحدث في العالم الآن من كراهية للعرب والمسلمين هو نتاج طبيعي لهذه السياسات التي أنتجت هذا الفكر المتشدد الذي ألحق ضررا هائلا بعقيدتنا وبثقافتنا وبقضايانا السياسية, ولا أعتقد أننا سنحظي بدعم دولي لقضايانا الوطنية والقومية وفي مقدمتها قضية فلسطين التاريخية في ظل شيوع هذا الفكر المعادي لروح العقل ومصلحة الإنسان أيا كان هذا الإنسان أو عقيدته. المتابع للمشهد الإعلامي العربي عبر الفضائيات يلحظ خطابا فجا يبدو أنه لم يستوعب الدرس بعد, ولم يتعرف علي حقيقة الأزمة, ولا ينم عن وعي حقيقي لا بالتاريخ ولا بالواقع, ولا حتي بصحيح الدين, ولا يستشرف المستقبل الذي يبدو قاتما لدرجة يائسة, أليس من المناسب والخطر يداهمنا من كل جانب أن يجتمع السياسيون وقادة الفكر لكي يتدارسوا هذه المأساة لعلنا نستطيع أن ننقذ ما يمكن إنقاذه. قد يكون من المناسب أن تتبني الجامعة العربية هذه القضية من خلال حوار حر وشفاف يشارك فيه المثقفون الحقيقيون مع صناع السياسة, لكي نخرج ببرنامج يحول دون مزيد من التدهور الذي ينبيء بمستقبل قاتم ومظلم.