هناك لغز يستعصي علي الفهم وهذا اللغز يتمثل في ذلك الغياب الفاضح للغة الحوار الصحيحة عند مناقشة القضايا العامة رغم أن الذين يقومون بذلك يفترض أنهم من صفوة المجتمع, ومن خيرة مثقفيه. وبادئ ذي بدء أقول: إن الجلوس حول موائد الحوار يتطلب ارتضاء كل المشاركين بالقواعد المتعارف عليها للحوار, حيث الحجة في مقابل الحجة, والفكرة في مقابل الفكرة اعتمادا علي سلاسة الأسلوب, وقوة المنطق, وليس بالصراخ والصوت العالي, كما نشهد هذه الأيام. والمشكلة أن البعض لا يستطيع أن يفرق بين وقوفه محاضرا أمام طلاب يجلسون في مدرج العلم ولا يملكون قدرة علي الجدل والحوار إلا بقدر ما يسمح لهم المحاضر بذلك وبين القبول بالجلوس علي مائدة حوار ليس فيها أساتذة وطلاب! إن المحاور السياسي الحقيقي هو الذي يملك القدرة علي إقناع الآخرين بوجهة نظره دونما حاجة إلي التعالي عليهم أو تجاهل آرائهم. وذلك أمر لا يتأتي فقط بوفرة المعلومات المحشوة في رأسه, وإنما بما اكتسبه أيضا من الملاحظة والتفكير والصلة الشخصية الوثيقة بأناس من جميع الطبقات. وعندما تتوافر للمحاور السياسي هذه القدرات يصبح قادرا علي المنازلة والحوار لأنه يشعر في قرارة نفسه بأنه أصبح بفضل هذه المكتسبات أقوي مما يعلم استنادا إلي معايشته للناس وإيمانه بصحة التوجهات التي تعبر عنهم. وإذا كان الخطر يكمن في أن الكلمة الجاهلة التي ينطق بها مدرس في المدرسة مثلا أو أستاذ في الجامعة وتخترق أذهان التلاميذ والطلاب يصعب اقتلاعها بعد ذلك بأي نوع من التصحيح وتترتب عليها تداعيات وآثار سلبية تنعكس علي سلوك المجتمع كله... فإن نفس الشيء ينطبق علي الكلمة غير المسئولة أو الرأي غير المدروس الذي ينطق به زعيم سياسي أمام مريديه أو يخطه كاتب في صحيفة أو يجاهر به داعية في فضائية تحظي بثقة واحترام الجماهير ويروج له ويصمم عليه. وليس هناك أسوأ من عناد السياسي والمفكر الذي تأبي عليه شخصيته المهتزة أن يقبل بأي تراجع.. وذلك علي عكس الحكماء الذين يملكون شجاعة التراجع عند الخطأ ويؤمنون بأن الرجوع إلي الحق فضيلة. أما الكارثة الكبري فتحل عندما يركب العناد برأس أي سياسي يعميه الغرور الكاذب عن التراجع عما وقع فيه من أخطاء بدعوي أن هيبته لا تحتمل التراجع مهما كان الثمن الذي سيترتب علي هذا العناد! وغدا نواصل الحديث.. خير الكلام: إذا حاججت فلا تغضب لأن الغضب يدفع عنك الحجة! المزيد من أعمدة مرسى عطا الله