الدولة الحديثة هي أحد منجزات الحضارة الحديثة وأحد تجلياتها التنظيمية والعملية وذلك بصرف النظر عن المشكلات التي تكتنف وجودها في الوقت الراهن. أي تبقرطها المفرط, وتهميش الفرد واغترابه وتحوله إلي مستهلك, وما دون ذلك من المشكلات, وتقوم الدولة الحديثة علي الفصل بين الدولة والدين, أي تأسيس نظام جديد للمشروعية بدلا من المشروعية الدينية التي كان يمنحها الكهنة والإكليروس للمملوك والحكام, وهذا النظام الجديد للمشروعية هو العلمانية أي ارتباط مشروعية الحاكم بالانتخاب والتصويت من قبل المواطنين, بعبارة أخري قامت الدولة الحديثة علي مبدأ عودة الدين للدومين الخاص للأفراد والجماعات وانسحابه من الفضاء والمجال العام, وهذا الأخير يتأسس علي علاقات وقوانين وضعية تقرها مؤسسات تمثيلية وتشريعية تنوب عن المواطنين في تحديد وتقنين القواعد والنظم والمعايير التي تؤطر المجال العام. في الحالة المصرية يفترض الاستمرار في مشروع النهضة والحداثة تأكيد مبدأ الدولة الوطنية الحديثة القائمة علي العلمانية. وهذا المبدأ يعني استبعاد الدولة الدينية كما يعني أيضا فهم العلمانية علي أنها ليست مبارزة بين الدين والدولة, وذلك يعني عمليا استبعاد العلمانية النضالية التي وجدت في مجري التطور الأوروبي ضد الكنيسة والتي مثلت صراعا حقيقيا بين قوي اجتماعية وحقيقية وثقافية حقيقة وليست متخيلة. ولاشك أن الأمر في الحالة المصرية يستدعي بداية بلورة فهم أرقي وديناميكي للعلمانية يستبعد أولا هذه النضالية العلمانية, وهذا الاستبعاد لا يقوم علي أسس واعتبارات نفسية وإنما علي أسس إدراكية وخيارات عملية وسياسية تفرضها وقائع الأمور وتطورها في مجتمعاتنا. ذلك أن العلمانية ليست مبارزة بين الدين والدولة أو بين المؤيدين والمعارضين وإنما تحديد مجالات الدين وفعالياته وبلورة مجال السياسة والحكم, كما أن مثل هذا الخيار يحول دون الاصطدام بالوعي الجمعي الذي يشغل فيه الدين الإسلامي والمعتقدات الدينية مكانة حيوية ومحورية, ومن ناحية ثالثة فإن تطبيق العلمانية لا يعني بالضرورة علمنة المجتمع والدولة بالكامل فثمة نماذج تاريخية يمكن الاسسترشاد بها كالنرويج واليابان حيث لم تفض العلمانية في هذه النماذج إلي علمنة كاملة للدولة والمجتمع. من ناحية أخري فإن هذا التوجه إلي العلمانية لا يتعارض مع النص في الدستور علي أن دين الدولة هو الإسلام, أو أن الشريعة الإسلامية أحد مصادر التشريع الرئيسية أو أنها المصدر الرئيسي للتشريع, فالمهم هو عدم تأثير هذا النص علي منظومة القيم الحديثة السياسية التي تتأسس عليها الممارسة بالمواطنة وحقوق التعبير المكفولة دستوريا وحرية الاعتقاد وضمانات اللجوء إلي التقاضي والمحاكم والمساواة أمام القانون ومبدأ المسئولية الفردية وما دون ذلك من المباديء والقواعد التي تحدد إطارا سياسيا حديثا وعلمانيا للفضاء السياسي العام والعلاقة بين المواطن والدولة كما تكفلها مواثيق حقوق الإنسان الدولية والتي يمكن إدماجها في هذا النص. ويترتب التوجه للعلمانية ضرورة إعادة الاعتبار لدولة القانون, وذلك يعني أن تخضع العلاقة بين المواطن والدولة للقوانين واللوائح والنظم المعمول بها, وأن تتحرر هذه العلاقة من شبهة الرهبة والبطش والخوف من مؤسسات الدولة, وأداتها التنفيذية أي الحكومة كما يحدث في العديد من الأحيان كما يرتب ذلك ضرورة بناء وبلورة قانونية وصياغة وعي جماعي وشعبي بتطبيقه القانون وضرورته لحفظ التوازن الاجتماعي, وإنصاف أصحاب المظالم وضمان حماية الضعفاء من سطوة ذوي النفوذ والثراء. من ناحية أخري بناء ديناميكية فعالة ومؤثرة لمحاسبة الخارجين عن القانون وعقابهم وفقا للقواعد المقررة, وأن تتوافر في هذا العقاب عناصر السرعة والردع لإعادة الاعتبار للقانون والقضاء في نفوس المواطنين ذلك أن مصدر فقدان الثقة في القانون والدولة هو تفشي المحسوبية والرشوة واستغلال النفوذ وارتباط التقاضي بالقدرات المالية والمكانة الاجتماعية للمتخاصمين والأطراف المتنازعة. والمطلوب في هذا الشأن هو أن يكون القانون جزءا لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع, بحيث يمثل مرجعية لا غني عنها للفصل والتقاضي في المنازعات والخصومات أيا كانت أطرافها, المواطن, الدولة, أو الأشخاص الاعتبارية والمعنوية أي الشركات والمؤسسات. وهذه المهمة تقتضي أولا تطبيق القوانين والقواعد المكملة لها في المجالات التي يتوافر فيها بنية تشريعية مقننة ومنضبطة, وهو ما تحفل به البنية التشريعية المصرية في مجالات عديدة. و ثانيا مواكبة التشريعات القانونية في المجالات النوعية الجديدة التي تطورت في إطار المجتمع والممارسة دون أن يتوافر لها أساس تشريعي يقنن تنظيمها وقواعدها ومجالات نشاطها وفاعليتها كتلك القضايا الناشئة عن التطورات العلمية والتكنولوجية والطبية مثل قضايا الموت الرحيم لتخليص المريض من الألم الذي لا يرجي منه شفاء أو الحمل خارج الرحم, أو الاستنساخ وقضايا الأمن المعلوماتي, وما دون ذلك من المشكلات المرهونة بالتطور العلمي في مرحلته الراهنة. وفي هذا الإطار قد يكون من الضروري وضع ميثاق عمل مجمع عليه من كافة القوي السياسية والحزبية القائمة في الفضاء السياسي للمجتمع, ويكون لهذا الميثاق الأولوية علي ما دونه من التشريعات أو علي الأقل ينبغي أن تتوافق معه التشريعات ويشمل القيم السياسية العليا التي تؤطر حياة الجماعة الوطنية السياسية, وهذه القيم تلتزم بها الأغلبية وتعمل في إطارها وتعزيزها وليس تغييرها أو خرقها, والأغلبية المقصودة هنا بالطبع الأغلبية البرلمانية وفقا للقيم السياسية الحديثة والديمقراطية فهي ليست ديمقراطية دينية أو عددية. والعلمانية التي نحن بصدد الحديث عنها صيغة لا تستبعد الدين ولا تجعله عدوا لها وتعترف بمكانة العامل الروحي والديني في تاريخ البشر. علي أن التوجه للعلمانية بالإضافة إلي ذلك يتأسس علي نظرة للذات والآخر, لا تقوم علي التمجيد المفرط للذات أو إلصاق الموبقات بالآخر, ذلك أن النظر للآخر( الغرب) لا ينبغي أن يتأسس علي مقولة العداء الثابت الذي يحمله الغرب لنا فتلك خرافة تجد من يروج لها في الغرب والشرق علي حد سواء, فالغرب ليس وحدة جغرافية ثابتة كما أنه ليس كتلة سياسية ثقافية واحدة معادية لنا. من ناحية أخري فإن النظرة لذاتنا علي أنها ثابتة ومتجانسة ومستمرة وتعلو علي النقائص هي نظرة أسطورية فليس ثمة ذات متجانسة علي الدوام, فأي ذات منخرطة في التاريخ وليست متعالية عليه وتشمل تناقضات وتنافرات وتوترات تحملها علي الصراع والنزاع ولاشك أن خطاب تفرد ذاتنا ومنطقتنا بدعوي الخصوصية يثير مشكلات ذات طبيعة منهجية وعلمية فمفردات خطاب الفراد ة الهوية والذات والقومية والخصوصية من شأنها أن تفضي إلي عدم انطباق المعايير الكلية علي هذه المنطقة من العالم, وترتب ضرورة البحث عن معايير خاصة بهذه المنطقة أي خصوصية تحليلية نابعة من شروط هذه المنطقة وملابسات تطورها وهي مشكلة يثيرها الإلحاح في تطبيق المعايير الكلية دون النظر إلي اختلاف شروط تطبيقها في واقع مختلف. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد