في يوم من أيام شهر مارس1991 وجدت نفسي في مطار أثينا الدولي مجبرا علي المبيت علي واحد من المقاعد غير المريحة في انتظار طائرة تأخذني إلي القاهرة. وكان سبب هذه الحالة المزرية هو الاضطراب الذي جري لحركة الطيران الدولية خلال وبعد فترة حرب تحرير الكويت مباشرة حيث قادتني الأقدار التي كان مقررا أن تأخذني من باريس إلي الوطن لكي أتنقل بين العاصمة الفرنسية والعاصمة الإيطالية حتي وصلت إلي العاصمة اليونانية; وعبثا فشلت كل محاولاتي للحصول علي فيزا مؤقتة للمبيت في أحد الفنادق القريبة من المطار رغم اشتراك أربع شركات طيران في المحاولة: الفرنسية والإيطالية واليونانية( أولمبيك) ثم انضمت لها المصرية تعبيرا عن الشهامة الأصيلة. وهكذا وجدت في الوقت متسعا للتجول في المطار, وأختلط مع موظفيه, وكانت المفاجأة أن المطار اليوناني كان بدائيا متخلفا وفق كل المقاييس, وبالتأكيد عند كل مقارنة مع مطار القاهرة الدولي في ذلك الوقت. وبالطبع لم أفهم أبدا لماذا رفض اليونانيون منحي تأشيرة الدخول آنذاك اللهم إلا أنني عرفت أن ذلك كان واحدا من التقاليد اليونانية ضد كل العرب وليس مستهدفا شخصي بحال. وبالتأكيد فإن ذلك لم يقلص حالة الإرهاق, ولكن الذكري بقيت حول مطار متخلف وبلد لا يحب العرب رغم ما قيل دوما عن العلاقات اليونانية العربية الحميمة, ومدي التأييد الذي يقدمه الشعب اليوناني للقضية الفلسطينية, وكان ذلك كافيا لكي أبقي بعيدا عن اليونان لأكثر من عقد من الزمان وبعدها تتالت الزيارات لأسباب شتي. وبشكل ما بدا الأمر مثيرا للغاية حول الكيفية التي تتغير بها الدول والأمم خلال فترة قصيرة, وإذا كان لي أن أصف التغير فقد كان ما قبل دورة أثينا الأولمبية وبعدها حيث قدرت لي أولي الزيارات للداخل اليوناني قبل الحدث الكبير بشهور قليلة وكانت أحشاء أثينا كلها ظاهرة, والإشاعات فيها أن الفساد قد وصل حتي الحلقوم, وأن الحضارة الهيلينية كلها سوف تتعرض لفضيحة كبري ساعة افتتاح الحدث الكبير. وعندما قدر لي زيارة أخري بعد انتهاء الدورة الأولمبية كانت اليونان قد أصبحت بلدا آخر; أوروبيا كما هو الحال في كل البلدان الأوروبية الأخري, وما بين المطار وستة آلاف جزيرة يونانية أصبحت الصورة باهرة تماما. ورغم أن اليونان كانت عضوا بالاتحاد الأوروبي منذ عام1981, إلا أن شهادة مولدها كدولة أوروبية متقدمة انتظر لقرابة عقدين من السنين نهلت فيها من المساعدات الأوروبية ومعها ارتفعت اليونان علي سلم التقدم حتي بات متوسط نصيب الفرد فيها من الناتج المحلي الإجمالي أكثر من30 ألف دولار, ومع هذا ارتفع موقعها في التنمية البشرية حتي احتلت المكانة26 بين الدول, وكان دخول منطقة اليورو شهادة علي قوة الاقتصاد اليوناني وسلامة موازينه الأساسية. وببساطة لم تعد اليونان بلدا متقدما فقط, بل أصبح مزدهرا كذلك يزوره قرابة17 مليون نسمة أي بزيادة ستة ملايين علي عدد سكانه. ولكن الصورة اليونانية الآن تظهر أنه كان هناك قدر غير قليل من الخداع البصري حيث جري الانقلاب اليوناني علي كتف فساد غير قليل, والأهم سياسات مالية قلبت عجز الميزانية من3% وهي النسبة المطلوبة لدخول منطقة اليورو إلي12.7% من الناتج المحلي الإجمالي, أما الدين الحكومي العام فقد بلغ ما يقرب من303 مليارات يورو( حوالي430 مليار دولار) أي ما يقرب من الناتج المحلي الإجمالي كله, بما يعني أن نمط المعيشة في اليونان كان يتجاوز قدرات الدولة الحقيقية. ودون الدخول في كثير من التفاصيل فإن الصورة المزدهرة لليونان كانت تقوم علي إفراط مبالغ في الاقتراض من البنوك بفوائد صغيرة حتي تعدي حجم الإقراض في الدولة100% من الادخار, وهي حالة أشبه بما جري في الولاياتالمتحدة حينما تم بناء حالة من الرخاء والبذخ علي الرمال الناعمة لتصور استمرار التوسع في السوق والنمو إلي أجل بعيد. النتيجة بعد ذلك معروفة, وحدثت في كثير من الدول, ومع وصول الأزمة اليونانية إلي المدي الذي وصلت إليه, دعا الاتحاد الأوروبي اليونان إلي ضرورة خفض الإنفاق بشكل كبير, كما دفع وكالات التصنيف الائتماني إلي التحذير من خفض تصنيف الديون الحكومية في حال أخفقت الحكومة اليونانية في تخفيض مديونيتها الكبيرة. ولمواجهة التداعيات المتسارعة للأزمة, اتخذت الحكومة اليونانية خطوات تقشفية عديدة, تسمح بتوفير4.8 مليار يورو وتضمن خفض العجز إلي8.7% من إجمالي الناتج المحلي في عام2010 مقارنة ب12.7% في عام2009. وتتمثل الإجراءات الجديدة في تقليص المنح والعلاوات لموظفي القطاع العام, وخفض البدلات, ورفع ضريبة المبيعات إلي21%, ووقف معاشات التقاعد, وزيادة الرسوم المفروضة علي الدخان والمحروقات والمشروبات, وإلغاء الإعانات المقدمة من الحكومة للمؤسسات التجارية وهيئة الاتصالات والصرف الصحي, وإزالة الإعفاء من الضرائب علي الكهرباء, وفرض ضرائب كبيرة علي السيارات الفارهة والقوارب والمروحيات والطائرات والأحجار الكريمة والمعادن الثمينة والجلود. وإلي جانب ذلك, نجحت الحكومة في إصدار سندات خزينة لعشر سنوات بهدف جمع5 مليارات يورو لتقليص احتمالات ومخاطر الإفلاس. هذه الإجراءات أثارت ردود فعل عنيفة داخل اليونان, حيث دعت نقابات موظفي القطاع الخاص والعام إلي إضراب عام في11 مارس الحالي كان الثاني من نوعه خلال أسبوعين. كما نظمت تظاهرة أمام البرلمان حيث كان يجري إقرار خطة التقشف, فضلا عن ذلك احتل بعض المتظاهرين مبني وزارة المالية للاحتجاج علي تخفيض الرواتب, وقام البعض الآخر باحتلال مبني المطبعة الوطنية في أثينا لمنع نشر قانون إجراءات التقشف في الصحيفة الرسمية. وانقسم الشارع اليوناني بين مؤيد ومعارض للخطة, فوفقا لاستطلاع رأي أجراه معهد كابا للأبحاث ونشرت نتائجه صحيفة تو فيما, فإن نحو48% من المستطلعين عارضوا الخطة, بينما وافق عليها نحو46.6%. الأكثر من ذلك, هو أن الأزمة أنتجت تأثيرات مباشرة علي القطاع المصرفي الأوروبي, خصوصا البنوك الفرنسية التي انكشفت علي الديون اليونانية بحوالي75 مليار دولار, والبنوك الألمانية التي انكشفت أيضا بحوالي43 مليار دولار, وهو ما دفع العديد من المراقبين إلي توقع ما هو أسوأ علي خلفية احتمال إقدام بعض الحكومات علي اتخاذ إجراءات تقشفية للتعامل مع تداعيات الأزمة بما يمكن أن يؤثر علي معدل النمو الاقتصادي في أوروبا. ومن هنا يمكن تفسير لماذا كانت ألمانيا وفرنسا أكثر المعنيين بأزمة اليونان الاقتصادية, حيث أكد الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي ضرورة دعم الخطة التقشفية التي أقرتها اليونان لمواجهة أزمتها المالية, مشددا علي أنه لا يمكننا أن ندع دولة في منطقة اليورو تسقط. إذا لم نقدم الدعم لليونان لأنها تبذل جهودا, فما كان هناك من داع لاعتماد اليورو. لكن التصريحات التي صدرت من ألمانيا كانت أكثر شدة, حيث أثار العديد من النواب ووسائل الإعلام الألمانية حفيظة اليونانيين عندما طالبوهم ببيع بعض الجزر المنتشرة في البحر المتوسط لمواجهة الأزمة الاقتصادية( تمتلك اليونان حوالي6000 جزيرة منها227 جزيرة مأهولة فقط, وتبذل شركة خاصة مقرها في هامبورج جهودا حثيثة بهدف بيع جزيرة يونانية غير مأهولة مقابل45 مليون يورو). إذ وجهت صحيفة بيلد الألمانية حديثها لليونانيين بقولها: نعطيكم المال وتعطونا كورفو. بينما قال النائب الليبرالي فرانك شافلر من الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم للصحيفة نفسها إن علي الدولة اليونانية الامتناع عن المساهمة في شركات, وعليها بيع أملاك عقارية علي غرار الجزر غير المأهولة, بينما ذكر النائب ماركو فادرفيتز أنه إذا بادر الاتحاد الأوروبي, وبالتالي ألمانيا, إلي مساعدة اليونان ماليا فعليها في المقابل الموافقة علي الضمانات التي حددها ب بضع جزر. وبالطبع رفضت الحكومة اليونانية كل ذلك, والمرجح هو أن مزيجا من إجراءات التقشف اليوناني والمعونات الأوروبية سوف يخرج اليونان من عثرتها, لكن ما جري في اليونان ربما يعطينا تقديرا آخر للجهود التي بذلها الفريق الاقتصادي المصري قبل وأثناء الأزمة العالمية الراهنة عندما عمل علي تحقيق النمو من ناحية, والحفاظ علي التوازن الاقتصادي والمالي من ناحية أخري, وربما بدرجة أعلي من المحافظة عما هو واجب حيث بلغ الإقراض53% من المدخرات. وبينما كانت الحكومة تنفق في عمليات تعديل الكوادر المهنية ومشروعات البنية الأساسية والدعم والبطاقات التموينية وتنمية القري الفقيرة, فإنها من ناحية أخري سعت إلي توفير الموارد للدولة من خلال قانون الضريبة علي الدخل والجمارك وفي المرحلة المقبلة قانون الضريبة علي العقارات وقانون التأمين الاجتماعي والمعاشات. إن كل هذه القوانين تبدو مؤلمة لجماعات وشرائح اجتماعية, ولكنها من ناحية أخري هي التي تحافظ علي التوازن المالي الاقتصادي المصري وتجعل ما يتم إنفاقه يأتي من موارد حقيقية, ومن ناحية ثالثة فإنها في أغلب الأحوال تطلق السوق من عقال القيود المكبلة بها وتدفعها دفعا إلي توسع حقيقي وليس مصطنعا استنادا إلي ثروات عقارية ومالية. وربما يحتاج كل ذلك تفاصيل في مقال آخر, ولكن ما يمكن تسجيله الآن أن مصر قد تجنبت بالفعل المصير اليوناني الذي وضع أرض اليونان ذاتها في المزاد الدولي, ولكن تجنب هذا المصير لا يعني أن ذلك هو المراد وإنما التعامل مع واقع للأزمة الاقتصادية يبدو أن بعضا منه سوف يظل معنا طوال هذا العام أيضا. [email protected]