أحسب أن هناك أوجه عديدة للتشابه بين السدود التي تقام الآن بشكل عشوائي منفلت في كل أركان حوض النيل وهي سدود صديقة علي وزن النيران الصديقة التي تأتي من أقرب الناس إليك فتصيبك بذهول المفاجأة قبل أن تلفحك بآلام الحريق- أقول إن هذه السدود تشبه المستوطنات التي ينشرها العدو الصهيوني في ربوع الضفة الغربية والقدس الشرقية ولعل بعض هذه الأوجه من التشابه تكمن في العناصر الآتية: 1- إن الدول التي تقيم هذه السدود في حوض النيل تدعي أنها تتفاوض مع باقي الدول ذات الشأن في هذا الموضوع وأنها تحرص علي مصالح غيرها وأن مصر- علي وجه الخصوص- لا يمكن أن تخسر مترا مكعبا واحدا من الماء من جراء إنشائها, وأنها علي استعداد للمشاركة في لجان متخصصة للتعرف علي تداعيات هذا الإنشاء تقول كل ذلك والعمل يجري علي قدم وساق في بناء السدود دون انتظار لمعرفة نتائج المفاوضات او تقارير اللجان. 2- إن الطرفين الإفريقي والإسرائيلي يتخذان من قضية بناء السدود ونشر المستوطنات ذريعة للحصول علي مباركة شعبيهما, حيث يقنع الأفارقة شعوبهم بأنهم قد تعرضوا للظلم المبين من المصريين لقرون طويلة وقد حان الأوان للحصول علي حقوقهم ورد الصاع صاعين لهؤلاء المصريين الجبابرة الذين ساموهم سوء العذاب علي مدي السنين والأيام, أما علي الجانب الإسرائيلي فإن الحكومة تسترضي جموع المتطرفين وأقطاب المغالاة بالتوسع في إنشاء المستوطنات لتكسب ودهم وتبتز منهم أصواتهم الانتخابية ومقاعدهم البرلمانية. 3- إن الأفارقة واليهود من بناة السدود والمستوطنات يستخدمون ببراعة آلة الإعلام المغرض والموجه في نشر أكاذيب ودعايات صارخة وإقناع العالم أجمع بها, أعطي علي سبيل المثال لا الحصر أن إحدي هذه الدول كلفت إحدي كبريات بيوت الخبرة العالمية بتقدير كمية الوقود الأحفوري التي تقابل الطاقة الكهرومائية النظيفة التي ستنتج عن إنشاء السدود بها لإقناع العالم بأن ما تفعله ليس فقط من أجل التطوير والتنمية بها ولكن لصالح كل من يقطن علي ظهر الكرة الأرضية, أما استخدام إسرائيل لآلة الإعلام الدولي فأمر لا يخفي علي أحد في مشارق الأرض ومغاربها ولا ينطلي علي ساذج من بني الإنسان وما أمر قضية ميردوخ المعروضة في الوقت الحاضر علي الملأ ببعيد. 4- إن طرفي المعادلة يستقطبان كل وسائل وسبل الاستثمار ويستعينان في سبيل ذلك بكل ما هو متاح من المصادر حتي لو كانت هذه المصادر معروفة بالفساد والإفساد- يظهر ذلك بوضوح عند مراجعة الكثير من عقود إنشاء السدود الإفريقية التي لا تقوم بها بيوت مقاولات ذات سمعة وخبرة طيبة ولكن يغلب عليها أسماء شركات صينية وإيطالية معروفة بانخفاض المستوي التقني ودفع الرشاوي والاستقواء بالمافيات- والسبب بطبيعة الحال أن الشركات المحترمة تعلم أن الشأن المائي الدولي يتطلب موافقة كل الدول المشاركة في الحوض- وعلي الطرف الآخر تجد أن إسرائيل لا تستخدم نفس الطريقة الفاضحة علي أراضيها ولكنها تشجع كل أنواع التخريب الاقتصادي والمالي والإداري خارج هذه الأراضي في غيرها من الدول خصوصا الدول المتخلفة. 5- إن الأفارقة واليهود من مشيدي السدود والمستوطنات لا يكترثون بغير مصالحهم الشخصية أما من عداهم فليذهب الي الجحيم, المثال الواضح علي ذلك أن معظم السدود التي تبني في الوقت الحاضر لم تتم دراستها بشكل متأن لحساب الأثر البيئي لها وآثار إنشائها علي الداخل وايضا علي الدول الأخري المشاركة كما أن التصاميم وطرح الأعمال وإسنادها يتم في جنح الظلام ولا يحس أحد إلا والبناء يرتفع, ويكفي أن نعلم أن أحد هذه السدود لم يكتشفه أحد إلا بعد أن التقطته صورة من صور أحد الأقمار الصناعية ويكفي أن نعلم ايضا أن أحد هذه السدود تعرض للانهيار بسبب السرعة الفائقة والمخلة في تصميمه وتنفيذه. 6- يشترك بناة السدود من الأفارقة مع بناة المستوطنات من اليهود والصهاينة في إغفال القوانين والأعراف وعدم الاعتداد بالاتفاقيات والمعاهدات, فبعض الساسة من الأفارقة يطلق علي الاتفاقيات والمواثيق السابقة أنها عفي عليها الزمن ولا تصلح لهذا العصر وأنها تمت في وقت كانت فيه البلاد مستعمرة ومن ثم فإنها لا تصلح مع دول مستقلة, أما سجل الصهاينة في إهمال قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية فحافل بكل ما هو مخالف للقانون ومجاف للحقائق. 7- أخيرا فإن مشيدي السدود والمستوطنات يشتركون في أنهم علي مستوي عال من الانتهازية واستغلال الظروف للوصول إلي أغراضهم الخبيثة, ففي حين كان الجميع يخشي بأس الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وحين فكر البعض في العبث بملف النيل هدد السادات بالرد العسكري فأسكت الجميع ولكن حين حكم مصر من لا يهش ولا ينش قام من يتصرف بحماقة ورعونة واستهتار كذلك الحال بالنسبة لإسرائيل التي وجدت ضالتها في ابتعاد فتح عن حماس فملأت الدنيا ضجيجا عمن يمكن أن تتفاوض معه وعندما اقترب لقاء أبو مازن بأبي العبد كان التصريح واضحا فصيحا بأن علي الأول أن يقرر إما أن يتفاوض مع إسرائيل وإما أن يختار حماس أما الاثنين معا فلا وألف ألف لا. علينا بعد ذلك أن ندرك أن هذا التشابه ليس وليد الصدفة إنما تحكمه مصالح مشتركة لعل أهمها نقل اليهود الإفريقيين لتنويع التشكيلة الصهيونية في الوطن المحتل بالإضافة إلي روابط اقتصادية وفنية وسياسية واجتماعية تحرص إسرائيل علي تدعيمها علي حساب المصالح المصرية, كذلك علينا أن ندرك أننا أمام ما يشبه النضال الذي يجب أن يتخذ أشكالا متعددة لعل أهمها العودة السريعة لمائدة المفاوضات وطرح الحجج والأسانيد والحسابات والحقائق وممارسة الضغوط عن طريق الوساطة والمساعي الحميدة والتوفيق من جانب الدول الصديقة والشقيقة إلي التحكيم وتقديم الشكاوي إلي مختلف المحافل وإثبات الضرر الناجم عن الاعتداءات والاستمرار غير المنضبط في بناء السدود, واستخدام الخبرات العالمية لإثبات حق البلاد التاريخي وتضخيم ملف الشكوي وزيادة أعداد المؤيدين والموافقين علي الحق وتحييد الدول التي تساعد الطرف الآخر بشتي الوسائل والطرق, ثم تقديم الملف الكامل إلي محكمة العدل الدولية والجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن في نهاية المطاف حتي يمكن أن نحصل علي حقوقنا وحقوق أجيالنا القادمة. المزيد من مقالات د. ضياء الدين القوصي