في المراحل الانتقالية وعقب الثورات الشعبية, هناك مساحة تسبق العمل السياسي.. مساحة زمنية وموضوعية تدار فيها الأ مور بمنطق الوطنية لا بمنطق السياسة, فيها تعلو المواقف الوطنية علي الاتجاهات السياسية, ويتقدم الصالح الوطني العام علي المصالح السياسية التي ترومها الأحزاب والقوي الأخري سياسية كانت أو اجتماعية أو فئوية. أهم ما في هذه المساحة هو الاتفاق العام أو ما دأب الكثيرون علي تسميته بالتوافق الوطني; وهو ما يعني تراضي أو تواضع كل القوي والفصائل والتيارات والجماعات علي هوية الدولة والمجتمع, وعلي المصالح العليا للوطن, وعلي التوجهات الأساسية والغايات الكبري, والخطوط العريضة التي عليها نسير, وبعد ذلك لنا أن نختلف, لكن الاختلاف هنا سوف يظل في حدود هذه الضوابط التي ينبغي أن تصير ثوابت للأمة. بهذا المعني كان ينبغي علي الجميع ارتداء ثوب الوطنية وتبني النهج الوطني للصالح العام, مثلما فعل الأزهر الشريف والذي انفرد بتسجيل أكبر رصيد من المواقف الوطنية, هذا وإن كان للمجلس الأعلي للقوات المسلحة نصيب من هذا المنحي في بعض المواقف. بعبارة أخري كان يجب تحقيق التوافق الوطني علي هوية الدولة- والتي لم تحظ ببلورة سليمة تعكس حقيقتها التاريخية في نصوص الدستور, وكان يجب التوافق علي الدستور نفسه, وعلي باقي مؤسسات الدولة التي بنيت علي أساس المغالبة لاالشراكة ودون توافق. وبنفس المنطق كان ينبغي التوافق علي كيفية إزاحة النظام القديم خصوصا فيما يتعلق بمساءلة رموز فساده واسترداد الأموال المنهوبة( ما تردد عن فكرة العدالة الانتقالية) وكذلك علي إعادة هيكلة أجهزة الدولة.. لكن ذلك لم يحدث, وماحدث هو أننا تجاهلنا المساحة الوطنية وقفزنا إلي المساحة السياسية, فاستعجلنا دولة القانون واستعجلنا ماسميناه بالديمقراطية التي اختزلناها في صندوق الانتخابات, هذا بمثل ما استعجل كل فصيل قطف ثمار الثورة لصالحه الخاص. لقد عني القفز علي مساحة الوطنية غياب ثوابت الأمة وهو ما أربك العمل السياسي برمته كما سيرد لاحقا, وكان استعجال دولة القانون ينطوي علي تناقض صارخ, فقد عشنا ستين عاما في ظل قوانين استثنائية وكانت الظروف في أغلبها عادية, وتشبثنا بالقوانين العادية في الظرف الاستثنائي الوحيد وهو ظرف الثورة, ونسينا أن هذه القوانين هي من صنع النظام الفاسد وأنها لن تقيم الصرح الذي نريد. واعتبرنا أن الصندوق هو الفيصل باعتباره أداة ديمقراطية, وتناسينا أنه يفتقد إلي شروط موضوعية عديدة لم تتوافر بعد, وأن الاحتكام إليه في السياق الذي نعيش فيه سوف يسفر عن انحياز كامل لفريق بعينه شاءت الأقدار أن يكون هذا السياق في صالحه... من هنا انشغل كل فريق بالعمل السياسي... ومن ثم كانت النتيجة: كانت النتيجة أولا: انقسام سياسي حاد بين فصائل ثلاث لايوجد بينها مشترك, وأقصد بالمشترك هنا الثوابت الوطنية التي تجاهلناها, ومن ثم صار كل فصيل لايرضي بأقل من إزاحة الآخر من الساحة تماما. لكن الصورة أعقد من ذلك; فكل فصيل بجواره أو خلفه فصيل آخر, فالإخوان بجوارهم باقي أطياف الإسلام السياسي, والمعارضة ممثلة في جبهة الإنقاذ خلفها الفلول أو بعضهم, والثوار الحقيقيون خلفهم الأغلبية الصامتة( أوحزب الكنبة). الفصيل الإسلامي لايريد جبهة الإنقاذ في الوجود, وهذه الأخيرة تبادله نفس الشعور, والفصيل الثالث لايريدهما معا, أي لايريد لاهذا ولاذاك... هنا حالة من الفراغ السياسي, وهناك حالة من الاشتباك السياسي من المؤسف أنها سوف تستمر; فإذا ماالتقي الفصيلان المشتبكان الآن علي الساحة- وهما الإخوان وجبهة الإنقاذ- لن يلتقي معهم الثوار, وإذا تلاقي الثلاثة, لن تلتقي معهم فصائل الصف الثاني الملحقة بهم, وهم فصائل التيار الإسلامي الأخري غير الإخوان, والفلول, والأغلبية الشعبية الساكنة مؤقتا. وكانت النتيجة ثانيا علاقة ملتبسة مع القوانين; فمن ناحية نلاحظ أن جل القضايا السياسية تذهب إلي المحاكم هربا من الساحة السياسية التي لم تعد تملك آليات للحل, وكأن القضاء قد أصبح الآلية الوحيدة التي تعمل في حين تعطلت باقي الآليات. ومن ناحية ثانية نجد مظاهر عدم احترام القانون وقد شاعت بشكل ليس له سوابق في تاريخنا المعاصر... تناقض غريب! وكانت النتيجة ثالثا انفصاما تاما بين الشرعية والمشروعية, والشرعية هي ما يرتضيه الناس, والمشروعية هي التطابق مع القانون; فقلما ما اجتمعت الشرعية مع المشروعية, فمنذ البداية- مثلا- كانت الشرعية مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة لكن دون مشروعية, ثم كانت المشروعية مع عملية إعداد الدستور لكن دون شرعية, ومثله مجلس الشوري... ويصدق ذلك بخصوص أغلب الممارسات التي تمت وتتم حتي الآن. وبعبارة أخري يندر أن نعثر علي مؤسسة أو سياسة أو قرار في هذه المرحلة يتوافر علي الشرعية والمشروعية معا; أي يتفق مع صحيح القانون ويحظي بالرضا العام في نفس الوقت. وكانت النتيجة رابعا أن نشهد بوادر التحلل من خصائص الدولة; فبعض مؤسسات الدولة لم يعد مستقلا, وبعضها لم يعد منضبطا, وبعضها لم يعد معترفا بقواعد العمل فيها. ولم تعد بعض الجماعات تحتفظ بانتمائها, ولاعادت تحترم قوانين البلاد, وكذلك كثير من الفئات, وربما بعض الأقاليم, وهذا في مجمله أكد ضياع هيبة الدولة, ثم تصاعد الأمر إلي تراجع سيادة الدولة و انعدام قدرتها علي التغلغل وغيابها في كثير من المجالات, وعن بعض المناطق, وعن أغلب الجرائم وممارسات العنف.... وأعتقد أن هذا هو آخر نذير للخطر! هذه المآسي تشكل جوانب الأزمة التي نعانيها; ومن ثم فإن الحل يكمن في العودة إلي التوافق الوطني... لاتوجد دولة في العالم يمكن أن تعيش دون مساحة الاتفاق العام. ومعني ذلك ضرورة تعديل الدستور, وحكومة إنقاذ وطني, وبرنامج وطني واضح... ثم باقي التفاصيل. لمزيد من مقالات د.صلاح سالم زرنوقة