هذا الكتاب النظام القديم والثورة الفرنسية للمؤرخ الفرنسي الكبير الكسي دو توكفيل, يعد بمثابة مدخل لفن قراءة الثورات إذا جاز لنا التعبير. فهو ليس كتابا تاريخيا تقليديا للثورة الفرنسية كما يبدو من عنوانه للوهلة الأولي, إذ أنه لا يعني فقط بتحليل ودراسة وفهم أحداث الثورة, بل يعني أيضا وربما في المقام الأول بدراسة التحولات الاجتماعية العميقة التي شهدها المجتمع الفرنسي إبان تلك الحقبة. كان توكفيل مهموما حقا ببحث وتحليل هذه الزاوية: التحول الاجتماعي الذي أحدثته الثورة الفرنسية. وهو تحول لا يحدث بالطبع دفعة واحدة, أو ضربة عنيفة واحدة هائلة علي حد تعبيره, بل يتمثل في عملية تاريخية كبري علي مدي عقود وأجيال. فالثورة الاجتماعية ليست عاصفة عاتية تنقض فجأة تحت سماء صافية, بل يحتاج الأمر إلي سنوات وعقود طويلة. يسجل إذن توكفيل عبر صفحات كتابه هذا التحول الفارق في حياة المجتمع الفرنسي, من مجتمع إقطاعي بكل قيمه ومفاهيمه وممارساته وطقوسه, إلي مجتمع رأسمالي جديد جاءت به ثورة سياسية عارمة رفعت في البداية شعار الحرية والإخاء والمساواة, وحلمت بإقامة مؤسسات ديمقراطية حرة, فإذ بها تتخلي عن كل شعاراتها المجيدة البراقة, وتنجرف نحو مجتمع رأسمالي ربما أشد رجعية و أوتوقراطية من تلك المجتمعات التي كانت الثورة الفرنسية قد أطاحت بها قبلا. ماذا حدث للثورة؟ كيف تخلت عن أفكارها ومبادئها وقيمها هكذا؟ لماذا تحولت بعد سنوات قليلة إلي عصر إرهاب حيث قام زعماؤها بتصفية بعضهم بعضا؟ وكيف صارت بعد مضي عشر سنوات بالكاد إمبراطورية وليست جمهورية كما كان يطمح الثوار؟ يقدم توكفيل هنا قراءته الخاصة التي تكشف معها عن الآليات الخفية التي تسمح بالانتقال من نظام اجتماعي إلي نظام اجتماعي آخر. وعبر لوحة عريضة حافلة بالتفاصيل والأحداث الصغيرة والكبيرة علي السواء, يرسمها لنا الكاتب, تبدو كل هذه الظواهر في النهاية مسارا منطقيا وموضوعيا ومفهوما أيضا(!) ويعد ألكسي دو توكفيل(1805 1859) من الفلاسفة الفرنسيين البارزين الذين أسهموا في إثراء الثقافة الفرنسية خلال القرن التاسع عشر, وانحازوا منذ وقت مبكر لفكرة المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين ربما لم يحظ بشهرة وذيوع صيت الفلاسفة الفرنسيين الآخرين لعدم ترجمة أعماله إلي العربية إلا مؤخرا. اشتهر توكفيل بكتابه المهم( عن الديموقراطية في أمريكا) والذي ظهر في مجلدين1835 1840 حيث يعرض فيهما لتأثير تصاعد المساواة في الظروف الاجتماعية علي الفرد والدولة في المجتمعات الغربية, فضلا عن كتابه( النظام القديم والثورة الفرنسية) الذي صدر عام1856 وهو الكتاب الذي نعرض له اليوم, ومن هنا تأتي أهمية ترجمته إلي العربية كإضافة مثمرة للمكتبة العربية. قام بترجمة وتقديم الكتاب المترجم الكبير خليل كلفت, الفائز بجائزة رفاعة الطهطاوي للترجمة, التي أعلنت نتائجها منذ أيام قليلة. وكلفت معروف بدقة الترجمة من الإنجليزية والفرنسية, وسلاسة اللغة, ودأب البحث, سواء في تحليلاته السياسية, أو في الاهتمام بقضايا اللغة العربية أو النحو, فهو مثال للمثقف المخلص الذي يأخذ الأمور بجدية ودقة, وتشعر في إنتاجه بأنه يسير في طريق التفاني إلي أقصي مداه. الكتاب صادر عن المركز القومي للترجمة.