لقد كشفت الثورة المصرية25 يناير2011 وبامتياز- عن عالمين متناقضين: أحدهما قديم ورجعي, رموزه سطحيون وتقليديون, و من ثم جاءت لتهدمه, والآخر حداثي متماس مع اللحظة الراهنة, وواع بأسرارها و تفاصيلها, موعود بقيم الحرية, و الكرامة, و العدالة الاجتماعية, و قد جاءت لتدعمه, و تعززه. لكن ما تفعله الثورات من خلخلة البني السائدة وتقويضها; من أجل صياغة بني جديدة, إنسانية الطابع, وديمقراطية بالأساس, لم يحدث بعد مع الثورة المصرية, حيث برز سجال سياسي, يعد في جوهره تعبيرا عن صراع ثقافي, يدور في أروقة المجتمع المصري, ما بين قوي رجعية, ومتكلسة, تكرس للماضي, وتتعامل معه بوصفه ملاذا لها, وقوي أخري ثورية/ تقدمية ترنو إلي مستقبل أكثر عدلا, وإنسانية. وبما أن الثورة لحظات متجددة من الفرز المستمر, فقد كان السقوط مدويا لكل الانتهازيين, ونهابي الفرص, أبناء التحالف المشبوه ما بين الفساد والرجعية, ولذا فقد بات الصراع السياسي الآن في مصر, ثقافيا في جوهره, فثمة محاولة الآن للالتفاف علي الهوية الحضارية المصرية, وقد ظهرت تجلياتها في أكثر من موضع, فتارة نسمع عن دعوات تأجير الآثار المصرية لإحدي الدول الخليجية, وتارة أخري نري بعض الموتورين يدعون إلي هدم تمثال أبي الهول, والأهرامات, بزعم أنهم من الأصنام! وتارة ثالثة يتهم بعض الجهلاء أدب نجيب محفوظ بأنه أدب الفسق والمجون, وغيرها من الدعاوي الكاذبة والمارقة عن جوهر المشروع الحضاري المصري, والمعادية له شكلا وموضوعا, وللأسف فإن جميعها حوادث دالة علي تحرك حثيث من قبل بعض المتطرفين والموالين لهم صوب تدمير الهوية الحضارية للأمة المصرية, وضرب قوتها الناعمة في مقتل; تحقيقا لمكاسب سياسية رخيصة وزائلة, ستفضي- لا قدر الله- إذا ظلت هذه السياسات والتصورات الرجعية كما هي إلي إفشال الدولة المصرية ذاتها, والممتدة إلي سبعة آلاف عام, وتفكيكها, وتحويلها إلي كانتونات صغيرة, برعاية السيد الأمريكي الإمبريالي الجديد! لقد كان من المدهش والمثير للريبة, ولعدد هائل من التساؤلات في الآن نفسه, أنه وبدلا من توسيع هامش الحريات عقب ثورة فارقة في أصل مبناها ومعناها, أن تنتقص هذه الحريات, ويتم قمعها تحت دعاوي ساذجة من قبل أدعياء الفضيلة الجدد, وحراسها النائمين تحت سطوة الإمبريالية العالمية. ولم يعد مدهشا الآن أن تسمع عن مصادرة عمل أدبي, أو فيلم سينمائي, أو عرض مسرحي, أو كتاب فكري تحت دعاوي سابقة التجهيز, ورؤي مبتورة, ومعدة سلفا, والأدهي والأمر مناخ معاد بطبيعته للفكر, والإبداع, تقمع فيه الحريات البحثية, وحرية الرأي والتعبير. غير أن ثمة سؤالا جوهريا وملحا في آن: ما المخرج إذن من المأزق الراهن بتجلياته السياسية, وأبعاده الثقافية؟ إن المخرج يبدو واضحا لمن أراد, ويتمثل في أن يعي القائمون علي الحكم الآن الخصوصية الحضارية للأمة المصرية بجذورها المختلفة: الفرعونية, والقبطية, والعربية, والإسلامية, وصولا إلي الجذر الحديث والذي يشكل جماع الشخصية المصرية, وأن يصبح الانحياز الوحيد لمربع الهوية الوطنية المصرية الجامعة, وأن يعلم الكل أن لهذا الشعب تكوينه المدني بامتياز بوصفه صاحب إحدي أهم الحضارات في تاريخ الأمم والشعوب, كما أنه لم يكن قط في مصر المحروسة من تعارض ما بين الولاء للدولة المصرية بعراقتها, وطبقاتها الحضارية المتراكمة, والإيمان بالمعتقد الديني السماوي المقدس, والمستقر في قلوبنا نحن المصريين; ولذا فإن حالة الهوس التي أصابت البعض تجاه الثقافة والفكر والحضارة المصرية سيفضي بنا إلي فشل ذريع, ليس لأن هذا الهوس موجه ضد الهوية الوطنية المصرية فحسب, ولكن ايضا لأنه ضد كل القيم والمقولات الإنسانية الكبري: الحرية, والتقدم, والاستنارة, والحداثة, والإبداع, كما أنه ضد العقل والمنطق, وبالأساس فإنه ضد حركة التاريخ في اندفاعها صوب الأمام, وفي حركتها الدينامية تجاه عالم تتحقق فيه إنسانية الإنسان. وللخروج من المأزق الراهن أيضا يجب أن تتوقف كل محاولات محو الهوية الحضارية المصرية, وصبغها بلون طائفي, وأن يتوقف العبث بمشروع الدولة الوطنية المصرية الحديثة والمؤسسة منذ عهد محمد علي, وأن يتوقف مشروع التمكين فورا, وأن يتخذ تيار الإسلام السياسي من مفهوم الوطن المتسع, متعدد الدلالات بديلا لمفهوم الجماعة الضيق أحادي الدلالة, وأن يدرك أن ثقافة الاستئثار, والهيمنة, والانفراد بالبلاد والعباد, لا تقيم دولا حديثة, ولا تصنع نهضة حقيقية, ولكنها ستجلب الدمار, وتحمله لبلد عظيم ومتحضر بطبيعته; ولذا فهو لا يحتاج لأنماط السلوك القبلي والعشائري التي تنطلق منها جماعات الإسلام السياسي, والتي كان آخر تجلياتها دفع بعض عناصرها للقيام بالدور الملغز للشرطة الشعبية تحت مظلة جائرة تدعي الضبطية القضائية للمواطنين, ستزيد من الفرقة بين جموع المصريين. وبعد.. إنه لا يمكن لأحد أيا ما كان- أن يدعي امتلاكا مطلقا للحقيقة, أو يجعل من نفسه وصيا علي الجماهير, أو يختزل الهوية المصرية في سياق أحادي المعني والدلالة, لأنه بذلك يفرقنا ولا يوحدنا, خاصة أنه لا غبار علي التراكم الحضاري للهوية المصرية, وأن شخصية مصر ثابتة عبر التاريخ, بعروبتها الراسخة, وانتمائها الدال إلي محيطيها الإسلامي, والإفريقي, وانفتاحها الدائم علي العالم, بوصفها إحدي أهم الدول المركزية في الجغرافيا السياسية في بنية العالم الراهن. نأمل أن تدرك السلطة والمتحالفون معها طبيعة وماهية الأمة المصرية بتراثها الحضاري والإنساني العميق, وقوتها الناعمة التي لا تعادلها أي قوة أخري لو علم العالمون. كلية الآداب- جامعة حلوان