ليس ثمة مسار واحد تعرفه "الكتابة"، ولا طريق أحادي يمكنها السير فيه، بل إنها كانت وستظل بنتا للتنوع والاختلاف. غير أن العام 2011 بدا حاملا لخصوصية كبري، تمثلت في قيام الثورة المصرية والتي قدمت معني فريدا، وخلاقا، بما تحويه داخلها من جينات التجدد، والإصرار علي مجابهة كل ما يكبل إنسانية الإنسان، لتقضي علي دولة التسلط والاستبداد، وتمحو صور الفساد، ومظاهره، مثلما تحاكم رموزه، وأعوانه، وأنفاره، هنا وعبر هذا الفهم تصبح الثورة المصرية حدا فاصلا بين عالمين: أحدهما قديم، و مهتريء، متسلط ومستبد، فاسد ولا إنساني، أدواته رجعية، ورموزه سطحيون تقليديون، والآخر حداثي، مشتبك مع اللحظة الراهنة، مدرك لأسرارها، و واع بتفاصيلها وبمنجزها العلمي والتكنولوجي، أدواته حداثية ذات طابع تقني، موعود بالحرية، قائم علي العدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، يحارب فيه الفساد، وتهتك أستاره العفنة، و المخزية. وتجدر بي الإشارة أولا إلي أننا لسنا بصدد تقصي عناوين أدبية، أو استقصاء رقمي لا تسعفنا الإحصاءات الغائبة لصنعه، ولكننا وبالأساس أمام محاولة موضوعية لرصد اتجاهات وملامح الكتابة الإبداعية في عام الثورة. يمكننا القول بأن ثمة مسارات أساسية لوضعية الإبداع الأدبي في العام 2011، ويمكننا تحديد هذه المسارات ما بين نصوص أدبية تماست مع اللحظة الثورية الراهنة، وتقاطعت معها، فتعاطت مع الإبداع بوصفه قراءة للواقع، وكشف عن بنياته السياسية / الثقافية، وبما يشي بأننا أمام مسار يتجاوز النزوع الانفعالي الذي قد يهيمن علي واقع الكتابة، وراهنها في حال التواريخ الفارقة في حياة الأمم. وفي هذا السياق يمكننا النظر إلي كتابين مائزين، اولهما (مائة خطوة من الثورة.. يوميات من ميدان التحرير) للكاتب أحمد زغلول الشيطي، والذي يعد رصدا تحليليا نافذا وعميقا لتجليات الثورة المصرية حتي سقوط الدكتاتور، والثاني ديوان شعري لافت لأحمد سراج، ربما يفصح عنوانه عن مدلوله (الحكم للميدان)، فيه انتصار لشعرية الفعل السياسي، وتأريخ إبداعي للثورة المصرية في مراحل مختلفة لها، في استجابة جمالية للحظة مصرية مجيدة، تتسم بالتحول والتعقد والتشابك في آن: " ولأن صوتي لم يزل صوتي/ ولأن صوتي لم يكن صوتك/ ويدي طاهرتان من ذهب المعز وسيفه/ ويدي عامرتان من كنز الحقيقة/ فأنا سيوف من حصون من أمل/ وأنا الدماء الراوية/ ميداننا تحرير). ويتماس (أسامة حبشي) مع أفق ثوري أكثر اتساعا، ففي روايته (مسيح بلا توراة) نري حضورا دالا لأيقونة الثورة التونسية (محمد البوعزيزي)، والذي يصدر به الكاتب روايته كعنوان فرعي دال:" محمد يدرك أن سيدي بوزيد خارج التاريخ وكأنها بقعة عار علي البلاد، لا يجب الانتباه إليها مهما حدث، الحيقة أنه مات قبل أن يقرر موته المعلن علي الملأ، لذا بدون تردد جلب قارورة البنزين، ووقف يهدي العالم أرق كلماته عفوية: تصبحون علي وطن أجمل". أما عن المسار الثاني، فيبدو علي - نحو أو آخر - أكثر نفاذا إلي جوهر الواقع، حيث عني بتفكيكه أولا، لا من أجل صوغه، وإعادة بنائه من جديد فحسب، ولكن من خلال تحليله، واستشراف أفقه الممتد، عبر مد الخيوط علي استقامتها، والنظر العميق للعالم والأشياء، وهذا ما نجده مثلا في رواية (أرض النبي) للروائي خالد إسماعيل، والتي يدين فيها الاستبدادين السياسي والديني، طارحا مساءلة عميقة للواقع المصري في أشد لحظاته تحولا، فالرواية المكتوبة قبل الثورة مباشرة، والصادرة هذا العام، تستشرف أفقا مستقبليا، ينبيء فضاؤه الروائي عن عالم متوتر بالأساس، تشغله الثارات، وتحركه الشائعات، تلك التي كانت سببا في ازدياد الاحتقان بين المسلمين والمسيحيين داخل المكان "بلدة بني عيش"، واتساع الفجوة بين عالمي "جامع التوحيد"، و"جمعية حاملي الصليب الأرثوذوكسية" لنصبح أمام مقابلة بين تيارين متعصبين أحدهما سلفي، والآخر كنسي، ويجعل كلاهما الهوية الدينية بديلا عن الهوية الوطنية. أما عن المسار الثالث، فثمة نصوص أدبية راهنت علي متلقيها، ولم تشتبك مع ذلك "الآن/ وهنا"، وحوت منطقها الجمالي الخاص، من بينها - علي سبيل المثال - رواية( وسريرهما أخضر) للروائي محمد البساطي، بما حوته من نزوع إنساني آسر، و(وشم وحيد) للروائي سعد القرش والتي تعد قراءة سسيو جمالية لعالم قار في بنية الحياة المصرية، في اكتمال بديع لثلاثية(أول النهار/ليل أوزير/وشم وحيد)، و رواية ( ساحل الغواية) للكاتب محمدرفيع، في اتكائها علي محاولة اللعب مع المكان(البحر الأحمر/الغردقة)، وهناك أيضا حضور دال لملمح صوفي إنساني متمثلا في رواية ( شجرة العابد) للكاتب عمار علي حسن، كما نري حضورا للثقافة البصرية في رواية( كادرات بصرية) للكاتب محمود الغيطاني، والتي تستعير آليات السينما ودقائقها وتضفرها في بنية السرد، ويستكمل فيها الكاتب انتقاده للواقع الثقافي والذي بدأه في روايته الأولي( كائن العزلة ). وتستكمل القصة المصرية وهجها الخاص، عبر تنويعاتها السردية المختلفة من جهة، والاقتراحات المغايرة التي تقدمها من جهة ثانية، حبث نري تنوعا خلاقا ما بين قص يتكيء بنيته علي الجمل التلغرافية، والحضور الواعد لآليتي الإيجاز والتكثيف اللغوي والحدثي، كما في مجموعتي( ما لا نهاية) للقاصة راندا رأفت، و(حبات التوت) للقاص عادل العجيمي، والمتخذتين عنوانا فرعيا (قصص قصيرة جدا)، بدا وكأنه تصنيف نوعي، لم يكن من داع له علي أية حال، فالنص كاشف عن نفسه، وهناك نصوص قصصية تنحو تجاه أسطرة الواقع، وتستحضر مساحات أشد من الفانتازيا والتخييل، كمافي(مجموعة جسد في ظل) للكاتب عبدالنبي فرج، والتي يؤسطر فيها الواقع، لاعبا - وبذكاء - في المسافة الواقفة بين الحقيقي والمتخيل.:" توقفت وأنا أري السرايا تتفكك، وأنا أهم بدخول الممر الذي يؤدي إلي الباب وخرجت منه جنيات مسحورات..يسرن زحفا حتي أحطن بي، كائنات بشعة وهلامية والنور الذي اندفع من عيونهن أضاء لي المكان.. حلقي جف.. عين واحدة متتالية تميزهم، وشعر أسود كث يغطي اجسامهم، وفم غوريلا، وأسنان من القصدير. الصراخ لم يعد يجدي. أنت ميت، صوت يقيني وقاس ينير لك المستقبل" وفي شعر العامية يمكننا الإشارة مثلا إلي ديوان( إيه ده) للشاعر ماهر مهران والذي يتماس مع الثورة المصرية، ويدين الواقع قبلها، و ديوان (هزيمتين وأوصل) للشاعر إبراهيم رفاعي، والذي يبدو أكثر نضجا من ديوانه الأول(قلب أراجوز)، حيث تصير فيه الهزيمة معبرا للوصول، فالمرارات النفسية التي تحسها الذات الشاعرة كفيلة بتنقية الروح، غير أنه لم تكن ثمة هزيمة واحدة أو حتي هزيمتان، بل ثمة هزائم متعدة، وأقساها خيبة الروح. لقد طرحت الثورة سؤالا متجددا عن جدل العلاقة بين السياسي والجمالي، قد نري عبره انفتاحا أشد من النص الأدبي علي الراهن المعيش، ليس بوصفه رصدا آليا تقليديا له، ولكن بوصفه زاوية نظر جديدة تجاه العالم والأشياء، وبما يشي بأنه لا نص في الفراغ، وأن العمل الأدبي يظل موصولاً بسياقاته السياسية والثقافية، و كشفا أصيلا عن ميكانيزمات التحول في المجتمع من جهة، وعن دواخل النفس البشرية وتعقيداتها المختلفة من جهة ثانية، وقبل هذا كله انحيازا إبداعيا للفني، وانتصارا له.