استقرت في الأيديولوجية المادية قناعة بأن للحرب فوائد كثيرة. فهي تفيد المجتمع وتزيد من تماسكه, وتجعله يفرز أفضل ما لديه. ولها فوائد اقتصادية للمجتمع الرأسمالي, فهي تجعل الصناعات الحربية تزدهر وتزيد فرص العمل وتحقق الرواج والنمو. وهي تسرع من تطوير اختراعات تفيد المجتمع والاقتصاد, وتمكن من تكوين وتوسيع الإمبراطوريات.وتمكن من إرسال أكثر أعضاء المجتمع شراسة ليحاربوا الأعداء بدلا عن إضرارهم بالمجتمع.وهي تتحكم في عدد البشر كفائدة داروينية تخلص الجنس البشري من النسل الضعيف الذي نتج عن مراحل تطور متخلفة, والذي ينهزم عادة وقد يتم استئصاله وتبقي السلالات القوية( كما حدث في أمريكا واستراليا ونيوزيلاند). وقد يلجأ لها الفكر المادي في أزمته الديمغرافية. والحرب تحرر الحكومات من مراقبة المؤسسات الديمقراطية مادامت مشتعلة, فتتمكن من تحقيق أغراض النخب الحاكمة دون تدخل من الدهماء. ومع تعاظم حجم الشركات وتزايد الحاجة للخامات, أصبحت الحرب لاغني عنها للنظام الرأسمالي. ولأن الحروب مفيدة جدا بسبب الأرباح الوفيرة لمؤسسات المال وللصناعة, أصبح من المعتاد تمويلها وبيع العتاد الحربي لكل الأطراف المتصارعة, فإن لم يوجد هناك نزاع فلابد من خلقه ولو بالوقيعة بين المتنافسين حتي تتحقق الفائدة. وهكذا كانت كل الحروب السابقة, حربا عالمية أولي لأن أحدهم قتل ولي عهد النمسا, وحربا عالمية طاحنة ثانية بعد صعود هتلر للحكم ودعمه ماليا وصناعيا بواسطة البنوك والمؤسسات الصناعية الأوروبية والأمريكية, وسباقا مجنونا للتسلح خوفا من حرب باردة لم تشتعل نارها أبدا, وحروب صغيرة تستعصي علي الحصر,وأخيرا حربا علي الإرهاب, ذلك العدو الغامض الذي يستعصي علي الفهم والهزيمة, الموجود خلف كل باب وفي خلايا نائمة ومستيقظة. وتم إنشاء صندوق النقد والبنك الدولي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لإدارة سيطرة المؤسسة الأنجلوأمريكية علي الاقتصاد العالمي, وعلي إعمار أوروبا بعد الحرب, تشاركت فيهما كل الدول الغربية تحت القيادة الأمريكية. وبعد انهيار الاتفاق النقدي, حدثت حرب أكتوبر وتلاها مضاعفة أسعار البترول بنسبة400% بعد ثباتها لعدة عقود. وهذا أمر مستغرب في ضوء إدراكنا لحقيقة هوية القوي المسيطرة سياسيا واقتصاديا وعسكريا علي العالم وعلي دويلات البترول, ومسيطرة علي أعمال استخراج البترول والاتجار فيه.ويدلنا التاريخ علي أن دولا كثيرة لجأت للحرب خصوصا ضد أعداء ضعفاء إذا تجرأوا وأصابوها بأضرار اقتصادية أقل بكثير من الأضرار التي يقال انها أصابت الدول الغربية من جراء مضاعفة سعر البترول. إن استسلام دول الغرب لهذا الضرر غريب. لقد نتج عن هذا فوائض هائلة لدول البترول,ولجوء الدول النامية للاستدانة. وقامت البنوك الغربية بإعادة تدوير الفوائض النفطية وإقراضها لتلك الدول, وتولي صندوق النقد إدارة تحصيل تلك الديون,مما سبب أزمة ديون العالم الثالث التي دمرت اقتصاد تلك الدول كأشد حرب! وكانت وصفة صندوق النقد لاتتغير,حسب دوره الجديد المرسوم بعناية والمغلف بمعسول الكلام( الخصخصة وفتح الأسواق ورفع الدعم الحكومي وخفض الإنفاق الحكومي وخفض قيمة العملة المحلية) التي استنزفت اقتصاد تلك الدول تماما. وأصبحت شركات المضاربة المالية وصندوق النقد والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية في ظل اتفاقيات الجمارك يشكلون فريقا حربيا عجيبا لو استهدف دولة لدمر اقتصادها وسلمها غنيمة بخسة لمؤسسات المال والصناعة العالمية.وهذا الجبروت جعل لويد بلانكفين رئيس مؤسسة جولدمان ساكس المالية يقول:أنا أقوم بعمل الإله! ومع تطور العولمة ونشر الرأسمالية وإطلاق حرية حركة رأس المال والتلاعب بقيم العملات المحلية وربطها بصرامة بالعملات العالمية, ووجود آلاف البنوك وصناديق الاستثمار المربوطة بالشبكة العنكبوتية, والمضاربة في الأسهم والسندات والعملات المحلية, والتطور العسكري والدبلوماسي الذي جعل الشأن الداخلي والإقليمي توجهه القوي العالمية, أصبحت سيادة الدول القومية الاقتصادية وقدرتها علي إدارة صراعاتها الإقليمية( وشن الحروب) محدودة جدا, واقتصر دورها علي حفظ النظام والإدارة المحلية. ومع تطور الإعلام وسرعة انتشار الأخبار, أصبح هناك نوع جديد من الحروب يتم فيه القضاء علي الدول ليس بتدميرها ولكن بإهدار قيمة اقتصادها والتسبب في إفلاسها باستهدافها بالشائعات والقلاقل وتحريك المليارات إلي خارجها فتنهار مؤسساتها الاقتصادية وشركاتها دون أن يصيب العطب أبنيتها, ويتم شراؤها بأثمان بخسة كما حدث في أزمة جنوب شرق آسيا. ويمثل العالم الإسلامي أكبر كتلة بشرية متزايدة عدديا في العالم, والإسلام هو الأيديولوجية المختلفة الوحيدة التي لاتزال باقية ومتماسكة في مقابل الحضارة المادية الرأسمالية الداروينية الليبرالية الاستهلاكية.إن مجرد وجوده, ناهيك عن طبيعته الدعوية التبشيرية وكثرة الشباب فيه وصحوة أتباعه الفكرية, يمثل خطرا إستراتيجيا علي الحضارة المادية المسيطرة. هذا بالإضافة لحاجة الغرب الأيديولوجية( الدائمة) لعدو( ولو متخيل) يتحقق به تماسك المجتمع واستقرار النظام والنخب.واستعصاء المسلمين في الغرب علي جهود تذويبهم في الأيديولوجية والحضارة والعادات الاجتماعية الغربية, يقض مضاجع المفكرين والساسة هناك.ومن قال بأن الصراع المستقبلي صراع حضارات كانت لديه مثل هذه الهواجس.