علي هامش ندوة مهمة نظمها مهرجان القرين في الكويت الشهر الماضي حول تداعيات الثورات العربية استمعت من الدكتور إرشاد هرموزلو مستشار الرئيس التركي للشئون العربية الحكاية التالية. لاحظ الأمريكان أن حديقة الهايد بارك الانجليزية تتسم بعشبها الأخضر المتوهج الكثيف فسألوا الإنجليز عما إذا كان بوسعهم شراء البذور التي تمنح هذا العشب حيويته وغزارته فلم يمانع الإنجليز. فأرسل الأمريكان سفينة لشحن كمية هائلة من بذور عشب الهايد بارك. لكن بعد عام من استخدام هذه البذور اكتشف الأمريكان ان العشب الجديد يقل في جودته عن عشب حديقة الهايد بارك فسألوا الإنجليز عن سبب ذلك فأجابوا انه لا بد من عملية قص للعشب الجديد ثم سقايته بالماء, ففعلوا ذلك لكن الفارق ظل قائما بعد عام آخر من القص والري. توجه الأمريكان بطلب النصح من الإنجليز فاقترحوا عليهم إجراء المزيد من عمليات القص والري بالماء, لكن التحسن كان يمضي بطيئا فاشتكوا إلي الإنجليز مرة أخري فقالوا لهم في النهاية: ماذا تظنون؟ إن عليكم ان تواصلوا تشذيب العشب وسقايته بالماء لمائة عام أخري حتي تصلوا الي العشب المطلوب. مغزي الحكاية الطرفة في معرض الحديث عن الديمقراطية أن علي الشعوب العربية أن تتخلص من وهم إمكانية إقامة نظم ديمقراطية مكتملة في سنة أو عدة سنوات. ليس معني هذا أن المصريين شعب عصي علي الديمقراطية كما أفصح رئيس الوزراء السابق احمد نظيف يوما أو كما طالب احد رموز المعارضة المصرية بحرمان الأميين من حق التصويت ناسيا أن نسبة الأمية في الهند أكبر ديمقراطيات العالم تبلغ35% وهي تزيد علي نسبة الأمية في مصر التي تبلغ وفق أحدث أرقام البنك الدولي28%. الديمقراطية تبدأ عبر صندوق الانتخابات, لكن حصد نتائجها في إقامة دولة الحريات والقانون والعدالة والمواطنة والمؤسسات هو حاصل جمع نتائج صندوق الانتخابات مضروبا في درجة الوعي الثقافي والظرف الاقتصادي والشرط الاجتماعي. وعندما يتحقق ذلك سيتضح لنا أن لكل مجتمع الديمقراطية التي يستحقها. لكن يبقي صندوق الانتخابات والاحتكام إلي إرادة الشعب هو البداية والأصل. هذا يعني ان الديمقراطية تتطلب عملا طويلا شاقا لن يخلو من الأخطاء والعثرات وربما الانتكاسات. بل إن الديمقراطية لن تصحح نفسها بنفسها وتؤكد وجودها النهائي إلا بأخطاء ترتكبها الأنظمة والشعوب معا. بهذا يتعلم الجميع. فالديمقراطية اليابانية مثلا ظلت تعاني من الفساد طوال ثمانينيات القرن الماضي إلي ان استقامت وصححت نفسها. الديمقراطيات الغربية ذاتها ليست مبرأة تماما من العيوب والنقائص. فقد تنبه الغرب مثلا منذ ثلاثة عقود إلي أن الرأسمالية المنفلتة خطر علي الديمقراطية ذاتها لإخلالها بمبدأ العدالة الاجتماعية, ولهذا أقام نظما فعالة للضمان الاجتماعي والتأمين الصحي وإعانات البطالة. جزء من مشكلتناأننا لا نريد التعلم من أخطائنا وإن تظاهرنا بغير ذلك, ناهيك عن قدرتنا في الاعتراف بأخطائنا. كم سياسيا مصريا كانت لديه جسارة الاعتراف بخطأ واحد ارتكبه خلال العامين الماضيين المثقلين بأخطاء ارتكبناها جميعا؟ والمحزن أننا نسخر ممن يعترف بخطئه ونتخذ من ذلك وسيلة للانقضاض عليه. جزء آخر من مشكلتنا هو أن لدي المصريين مشكلة مع الزمن, فإما السكون والسلبية والاستكانة لمئات من السنين وإما الغضب النبيل المفاجئ الذي سرعان ما يمطر انفعالا وانفلاتا وفوضي. والثورة من هذا براء. الحاصل اليوم أن مأزقنا الديمقراطي يتجلي علي صعيد الجماهير والنخبة معا. فالجماهير لم تعد صابرة علي تردي الأوضاع الاقتصادية وسوء الخدمات والمعاناة المعيشية فلجأت إلي التظاهرات والاعتصامات وقطع الطرق فزاد الوضع الاقتصادي سوءا. والنخبة السياسية والثقافية ما زالت غير قادرة فكريا ونفسيا علي تحمل نتائج الديمقراطية فيما أفرزته من وصول الإسلاميين إلي الحكم. وللمأزق وجه آخر أيضا هو اختلاف أولويات ومطالب الجماهير والنخبة. فقد تحقق للنخبة الكثير من مطالبها السياسية علي صعيد حقوق وحريات الرأي والتعبير والكف عن الملاحقة والتنكيل والاضطهاد لكن الجماهير لم تحقق بعد مطالبها المعيشية والاقتصادية. قدر الأغلبية الساحقة من المصريين أن تبقي مهمشة ومغيبة بين أتون السياسة وصراعات الساسة باستثناء الحقبة الناصرية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. قبل ثورة25 يناير كانت مصر قد تحولت إلي مصرين. مصر الأثرياء وطبقة الساسة وكبار المنتفعين, ومصر الفقراء والمهمشين والمحرومين. كانت مصر تبدو كشخص مزدوج الوجه والملامح أو كشخص مقنع في حفلة تنكرية. للأغنياء مدارسهم ومطاعمهم ومنتجعاتهم وللفقراء أيضا مدارسهم وطعامهم وعشوائياتهم. ثم توحدت مصر لثمانية عشر يوما هي العمر القصير والمبهر للثورة فبدت كلحظة خاطفة منيرة تظاهر فيها جنبا إلي جنب الفقراء والأغنياء, البسطاء والمثقفون. لكن عادت مصر مرة أخري تتحول اليوم إلي مصرين. مصر التي يتنازعها نظام حكم يخطئ ويفشل كما في كل الدنيا لكنه يتمتع بمشروعية لا يمكن لديموقراطي حقيقي أن ينكرها, ومعارضة نشطة وصاحبة رؤية لكن تريد لأجندتها ورؤيتها أن تعلو علي المبدأ الديمقراطي ذاته. أما مصر الثانية فهي ما زالت نفسها التي كانت قائمة قبل25 يناير. إنها مصر الفقراء الذين يزدادون فقرا والمهمشين الذين تراجعت مطالبهم الحياتية الأولية والمشروعة أمام صخب العراك السياسي والحزبي. ومثلما كانت جماهير( مصر الثانية) هي وقود نخبة( مصر الأولي) قبل الثورة فإن الوضع لم يتغير كثيرا بعدها. ما زالت النخب السياسية والحزبية تتغذي علي مطالب الجماهير العريضة وتناور فيما بينها بهموم هذه الجماهير وتلعب بورقتها علي رقعة شطرنج الطموح السياسي الشخصي. كيف السبيل الي الخروج من هذا المشهد الخانق وربما المخنوق؟ لا أحد يمكنه الادعاء بامتلاك تصور لما ستكون عليه مصر بعد خمس سنوات من الآن ولا ربما بعد عام أو عامين. غموض المستقبل القريب لمصر ناهيك عن مستقبلها البعيد سيظل قائما ما لم يكف البعض عن استغلال مشاعر الجماهير ويتوقف البعض الآخر عن المناورة بهموم الناس وأن يدرك الجميع أن المتربصين بالثورة في داخل وخارج مصر هم أكثر عددا وعتادا ودهاء من أنصار الثورة انفسهم. من كان يصدق ذلك منذ عامين فقط؟