عن دار الحضارة يصدر هذا الكتاب الجميل الأنيق, صغير الحجم, الذي يضم مختارات من أشعار الحب في مصر القديمة, نقلها إلي العربية مترجم وأديب, يسكنه حس مرهف, ووجدان شديد الحساسية ولغة أدبية طيعة, تستجيب في يسر وتدفق لكل ما تفيض به بساتين الحب وطيوره في قصائد الشعر المصري القديم هو الأستاذ فكري حسن. وهي قصائد يرجع معظمها كما يقول هذا الديوان البديع إلي ما يزيد علي ثلاثة آلاف وخمسمائة عام, فهي من التراث الأدبي لعصر الدولة الحديثة, وقد كتبت بالهيراطيقية علي برديات وأوستراكا مودعة حاليا بالمتحف المصري بالقاهرة والمتحف البريطاني ومتحف تورينو. وما قام به المترجم شاعري الروح واللغة في تعامله مع هذه الثروة من النصوص الشعرية باذخة القيمة تاريخيا وفنيا هو في جوهره صياغة شعرية حرة تستلهم جوهرها لتعيد اليها طلاوتها ونضارتها ولتبرز ما فيها من أحاسيس جياشة ومن لوعة وبهجة واشتياق. ذلك أن هذه القصائد في مجموعها هي ترنيمات وأغنيات يعبر فيها المحبون عن عواطفهم في لغة تدهشنا بتواصل لغة الحب من الماضي إلي الحاضر متخطية مساحات شاسعة من التاريخ لتشرق علينا من بين الأطلال وحلكة الماضي السحيق كنجوم زاهرة وأزهار فواحة وطيور برية زاهية الألوان, تحط لدينا من شاطيء بعيد لتمنحنا البهجة والأمل, ولتقوي إيماننا بقدرة الحب علي العطاء. من بين أغاني مدينة منف, تقول الحبيبة في بردية هاريس: كما يذوب الملح في الماء, كما يختلط الماء باللبن, حبك يتخلل كياني, يسري في وجداني, فلتسرع إلي كصقر ينقض من السماء كجواد يركض, أو كثور هائج, لتسرع إلي فمحبوبتك في انتظارك. فيحيها حبيبها الذي يشبه نفسه بالطائر البري: شفتا حبيبتي برعم لوتس, ونهداها ثمرتا رمان, وذراعاها كرمة, عيناها توت أسود, وحاجباها فخ, أنا الطائر البري, يلتقط طعم شعرها الفاحم, مجذوب إلي فخها دون تردد وفي المقدمة الضافية التي كتبها المترجم الأديب فكري حسن لهذه المختارات يشير إلي أن أقدم هذه القصائد يعود إلي عهد الأسرة الثامنة عشرة(0551 7031 ق. م.) وهو العهد الذي شهد قيام مصر بتعزيز سطوتها ومد سلطانها إلي ما جاورها من بلاد الشرق, كما شهد طرزا فنية جديدة, وأفخم المنحوتات وأروع الأعمال, بالإضافة إلي الاصلاحات الدينية الكبري. وصارت القصور الملكية في طيبة ومنف والعواصم الجديدة في شرق الدلتا مراكز عالمية للثقافة والابداع وتصور مشاهد الولائم والحفلات السيدات الجميلات وقد ارتدين الملابس الشفافة من الكتان وتحلين بالمجوهرات واكتحلن بالكحل الأسود وبدت نضرة أجسادهن بما تطيبن من العطور والدهون, وقد التأم شملهن في قاعات القصور, للاستمتاع بمشاهدة فرق الرقص والموسيقي, وكان عازفو القيثارة يشتركون مع عازفي العود والناي في فواصل مع العزف المنفرد أو المزدوج, لتقديم المقطوعات الموسيقية المفضلة. ويعتمد المترجم في قيامه بهذه الترجمة البديعة, علي ترجمات إنجليزية لأربع مخطوطات قام بترجمتها عن المخطوطات المصرية القديمة آلان جاردنر ومريم لشتايم:, وكينيث كتشن. بالإضافة إلي ما حرره وليم سمبسون, هذه المخطوطات هي بردية تشستر بيتي بالمتحف البريطاني وبردية هاريس بالمتحف نفسه, وقصاصة بردية بمتحف تورينو, وقطع أوستراكا من الفخار بمتحف القاهرة وهو يشير في وضوح إلي أن بعض قصائد الشاعرة اليونانية سافو ونشيد الإنشاد في العهد القديم تشترك في عدد من الملامح مع الشعر المصري القديم, إلا أن نشيد الإنشاد تعود جذوره إلي بيئة شرقية واقتصاد رعوي. يقول العاشق المصري القديم في بعض قصائد مجموعة القاهرة: حبيبتي علي ضفة النيل الأخري, وبيني وبينها النهر والتماسيح, ولكني سأخوض الماء وأتحدي التماسيح, فحبك يمنحني القوة والشجاعة. أنتظرك يا معبودتي في شوق عارم, وعندما أسمع خطواتك, يقفز قلبي بين الضلوع. عندما يضمني ذراعك وتحتضنيني, يصيبني الخدر, وأهيم في عالم آخر, في حديقة فواحة بالزهور, بعيدا, في بلاد ونت أتمني لو كنت مجرد خاتم لإصبعك الصغير, حتي يتسني لي ملامسة أناملك في خلسة من الآخرين. وفي إحدي برديات تشستربيتي يقول الشاعر العاشق: حبيبتي بلا نظير أجمل النساء, مضيئة إذا أهلت كنجمة براقة في ليل عيد, عيناها آسرتان, وشفتاها ياقوت أحمر, والشعر جواهر سوداء تبرق في ضوء النيل, وحديثها منمق أثير. إن القاريء العصري لهذه المختارات المترجمة إلي العربية, لن تغيب عنه صورة مصر الممتدة عبر العصور, بنيلها الخالد, وخضرتها الدائمة المزهرة, وحقولها وطيورها وإنسانها المحب للحياة الصانع للحضارة, والعاشق لكل ما في واديها من جمال. كما أن شاعر هذه الأيام تلفحه حرارة العشق والهيام والتغني بالمحبة لدي الشاعر القديم, ذلك أن الحب متدفق وموصول, واللغة قادرة دوما علي أن تقول. المزيد من مقالات فاروق شوشة