لم ألتفت في البداية الي أن يدها المبللة بالعرق الغزير تتسلل من يدي. كنت مشدودا بكل حواسي للجموع المستنفرة.. الوجوه جادة وعابسة.. الأصوات ترتفع وتقذف هتافاتها الهادرة نحو السماء.. آلاف الأذرع تندفع وتثقب الفضاءات الغائمة. يا والدي اطلع علي الرصيف.. هل مثلك يخرج في يوم كهذا؟! قال شاب وهو يدفعني بحذر لم أكن منتبها الي أني وإلهام أصبحنا في نهر الشارع.. حرصت علي أن نظل طوال المظاهرة واقفين أو سائرين علي الرصيف, من الطبيعي ألا نتحمل التدافع.. الأجساد العفية تدق الأرض, وتحاول أن تزلزلها تحت أقدام الفاسدين والطغاة. كهول وشباب وبنات صغيرات وفتيان وصبية يشكلون كيانا أسطوريا زاحفا بثقة وقوة يجتاح الشوارع ويلتحم بالجنود المدججين بالدروع والعصي والخوذات وقبل كل ذلك أوامر الرؤساء المشددة بتكسير عظام المارقين الذين يهددون أمن البلاد. كيف تسللت يدها المسقية بالعرق من كفي وتهاوت علي الأرض وتمددت فاقدة للقدرة علي الحركة وأغمضت عينيها كأنها..؟! جلست الي جوارها مكوما بشيخوختي أمسح شعرها الأبيض.. لم أتنبه الي دموعي التي سقطت علي وجهها المتغضن الذي تراجعت منه الدماء واصفرت أوراقه. ندمت لأني لم أسرع بها عائدا الي البيت عندما هبت العاصفة وتدفقت في الشوارع أنهار البشر الذين فيما يبدو لزموا الصمت في انتظار الفرج, وقد أدركوا فيما يبدو أنهم وهم يتمادون في الانتظار ضاعت حقوقهم, ونهب المتنفذون كل ما وفرته الأجيال السابقة واللاحقة. رقص قلبي, فقد فتحت عينيها وابتسمت ابتسامة واهنة لكنها كانت كافية كي تلمع عيناها ويشرق علي وجهها تاريخ طويل من الطيبة والمحبة.. هذا الوجه الوديع الذي يرافقني علي مدي يتجاوز الخمسين عاما. تسللت كفاي من تحت ظهرها ورفعت جذعها وأخذتها بين أحضاني وخفيفا ضغطت.. شعرت أن مطرا يروي أرضا متشققة من الظمأ تمتد بطول قلبي وعرضه.. ها هي الخضرة النضرة تنبت بصحراء صدري القاحلة وبعدها أطلت زهرات صغيرة بيضاء من الياسمين والقرنفل.. ابتسمت الزهرات الصغيرة عندما ابتسمت إلهام المنهكة.. حاولنا أن نتجنب الأقدام المندفعة والأجساد العنيدة الزاحفة برغبة جياشة وعاتية في المواجهة المصيرية.. لكنها فشلت في كثير من الحالات.. كانت الهتافات لا تزال تطلب الحرية والعدل.. لا ندري بالضبط ممن يطلبونها, هل يمكن أن يمنحها أحد لأحد خاصة بعد أن ترسخ غيابها وطال مقامها لدي الذين احتلوا القصر الكبير؟ شملها سهوم.. كانت أفكارها تحوم بعيدا. طاف بخاطري ما تصورتها فكرت فيه. الي متي يظل هؤلاء المطحونون يطلبون الحرية والعدل ولا يكاد يجد أحد لهما أثرا في حياته؟.. ما الذي يحدث لكل من يقفز كالقرد الي السلطة, ويظل يحشو فمه وبطنه بالموز حتي يوشك علي الانفجار؟!.. القرد يصاب بصرع الموز, حتي إنه لا يستطيع أن يسمع أو يري أحوال الناس الذين لا حول لهم ولا قوة بينما ينتشر في كل مكان عملاء القصر. سألتني وهي تنتزع الكلمات بصعوبة من صدرها, ولا تكاد تجد صوتها: هل تذكر أول مظاهرة اشتركنا فيها؟ تنهدت.. لم أجد عسرا في تذكر ما جري.. كانت أول مظاهرة منذ ثلاثة وأربعين عاما.. بالضبط سنة1968 بعد أن صدرت أحكام هزيلة ضد بعض من تسببوا في هزيمة..1967 كل هذه السنوات لا تزيد علي حفنة رمل في قعر كفي.. استطيع بطرق أصبعي أن ألتقط من بينها ما أشاء. عمري كله حفنة رمل. قلت لها: ساعديني كي أحملك الي الرصيف. أغمضت عينيها.. تأملت رموشها.. في شبابها كانت طويلة وكثيفة.. تناثرت الآن ونحلت, لكنها في نظري بدت أجمل من ذي قبل.. اختطفني من تأمل ملامحها المستسلمة تواصل اندفاعات الشباب المدوية حولنا, ونحن كومة من السنين المهترئة, تعودنا بإرادتنا أو بالصدفة أن نشارك في الغضب العام.. هل يمكن في هذه المرة أن يحصل من يهزون الشجرة علي بعض الثمار؟ فتحت عينيها وابتسمت.. ربما عبر رأسها المجهد ما فكرت فيه. تذكرت ما كان علي أن أفعله.. حملتها الي الرصيف ودهشت لفرط هشاشة جسدها وكأني استشعرها للمرة الأولي.. لم أكن أستطيع حملها حتي عهد قريب.. أسرعت أبحث عن محل ايس كريم.. دلني بائع الصحف عليه.. كان قريبا.. أحضرت لي ولها الحلوي المثلجة التي تحبها.. مضت الجماهير تهتف ومضينا نلعق الأيس كريم في تلذذ.. عيني عليها أتابع شفتيها لأطمئن علي أنها راضية.. هكذا كنت دائما منذ أن أصبحت الهام أرضي وكتابي وحديقتي. غادرنا الكلية في ذلك اليوم من ستينيات القرن العشرين كي نقضي ساعة معا علي النيل, ثم نستقل الأتوبيس النهري الي الضفة الأخري, ثم نمشي معا حتي أول شارع خيرت الذي تسكن فيه قريبا من ميدان لاظوغلي.. دنت منا الجموع الهادرة.. قالت: هيا بنا ننضم اليهم رحبت بالفكرة جدا... كنت قد عزمت أن أوصلها ثم ألحق وحدي بالمظاهرة... قبضت علي كفها ودخلنا بقوة بطن الحشود... هتفنا مع المطالبين بالقصاص... تعالي الانفعال واحتدم... كنت مستعدا للمشاركة في ضرب من يوقفنا.... لم تمر لحظات حتي داهمتنا الشرطة في أول شارع قصر العيني... لم نتوقف... ضربونا بالعصي. هجمنا عليهم, دفعونا بالدروع.... وجهنا لهم اللكمات وقذفناهم بأرجلنا... هبطت علي كتفي عصا غليظة تبعتها أخري علي رأسي. لم أتالم وأنا في غمرة الحماس, لكنني فقدت الوعي لحظة, ثم استعدته... فوجئت بإلهام تلتقط في سرعة البرق فردة حذائها وتضرب بها الجندي ضربات متلاحقة وتسبه.... وسرعان ما فعلت مثلها فتيات أخريات... زاد هجومنا إلي أن تغلبنا عليهم.... تراجعوا أمامنا... مال الميزان قليلا لصالحهم بعد أن سقطت علينا القنابل المسيلة للدموع... لم تحتمل إلهام وانحرفت بعيدا وتبعتها حتي ابتعدنا وهي توشك علي الاختناق. وقفنا أمام محل عصير.... عرضت عليها أن أشتري لها عصير مانجو أو عصير قصب. رفضت وطلبت الانصراف... كان عودها النحيل يضطرب تحت وقع الكحة التي توالت بصورة ملحة وغريبة. كانت عيناها تسترق النظرات للشباب المندفع.... بداخلنا دون أن نصرح كمنت حالة من الفرح لمجرد التعبير عن عدم الرضا ورفض مايفرض علينا. لمحت محل أيس كريم....كنت مشغولا بفكر تغيير الحالة ولو مؤقتا... قلت: سوف آكل الأيس كريم... مارأيك؟ حاولت أن تتنفس بعمق. بدا ان صدرها ضيق.... تنفست بصعوبة.... سحبتها إلي شارع جانبي وجلسنا في حديقة صغيرة نلعق الأيس كريم... لعقته ببطء وتلذذ... كنا سعداء كأطفال في يوم عيد... أحسست فجأة بألم الضرب علي كتفي ورأسي... تشاغلت عنه... التحامنا بالناس جعلني راغبا في الجري وممارسة الملاكمة التي تدربت عليها في فترة المراهقة وأفزعني أن عرفت بنية المدرب كسر أنفي بلكمة خاطفة وقوية. قررت التخلي عنها.... الآن أستشعر الحاجة إليها. تذكرت أن اليوم عيد ميلادها وقد خرجنا لنشتري لها هدية.... قلت لها: كل سنة وأنت طيبة ياست البنات ضحكت وكانت تفرح كثيرا كلما قلت لها.... ياست البنات. واليوم بلغت الستين من عمرها فقد ولدت عام...1591 عرفتها في آخر لحظة قبل أن أغادر الكلية تماما. كنت في السنة الرابعة وهي بالسنة الأولي... كان ذلك قبل الامتحان بشهر. خرجنا معا في مظاهرات27,17 للمطالبة بإنهاء حالة اللاسلم واللاحرب وطرد الاحتلال الصهيوني الذي يدنس سيناء, وفي كل مظاهرة أكلنا الأيس كريم... أعرف أنها مسألة غريبة وملتبسة لكنها غير مقصودة.... كثيرا ماسألت نفسي كيف كنا نعثر بسهولة وفي عز المظاهرات والضرب والانفعال والهروب والمواجهات الدامية علي محلات الأيس كريم عندما تخطر ببالنا؟, ولماذا وكيف من الأصل تخطر ببالنا؟ في يومي91,81 يناير7791 كان خروجنا مقصودا وكنا قد تزوجنا وأنجبنا كرم وسهام, وتركناهما في سريريهما نائمين.... كنت قد علمت بنبأ المظاهرة فتسللت خارجا لولا أن لمحتني إلهام وأدركت ما عزمت عليه فانتعلت حذاء خفيفا ووشاحا وانطلقت معي.. كان الجنون بالفعل قد وجد سكنا لائقا به في عقولنا.... والسبب فيما يبدو أنها مثلي قد أيقنت بالعشرة أن أجمل ما في الحياة الذكريات, وأزيد عنها فيما أظن إيماني بأن التكافل من أجل الكرامة والحرية مطلوب لأننا جميعا في قارب واحد. في اليوم الأول اشتريت لها الأيس كريم ثلاث مرات وفي كل مرة نتلقي الضربات وتدهمنا الأجساد المندفعة فيسقط الأيس كريم... نكون قد سرنا في مظاهرة وحدث فيها ماحدث من كر وفر وهجوم منا وعدوان شرس من الشرطة, ثم تنفض فأشتري الأيس وسرعان ماتندلع من جديد ونفاجا بها تهب كعاصفة وتلفحنا نيرانها ويسقط الأيس... في آخر مرة بعد ان سقطت الحلوي اللذيذة جلسنا علي الرصيف وأخذنا نضحك, ثم توقفنا فجأة عندما تطلعنا إلي المشهد الصادم والموجع... الشوارع معتمة والتخريب كبير والجرحي أيضا كثيرون وأشياء كثيرة محترقة وحالة عارمة من الفوضي لحقت حتي بالشجر وشوهت عددا من المباني دون أن تستسلم الشرطة ولا الجماهير... هربنا داخل محل تنجيد كراسي سيارات تركه صاحبه وأسرعت بإنزال الباب الصاج علينا عندما بدأوا بصورة محمومة التقاط كل من تقع عليه عيونهم... أخذتها بين أحضاني فاستسلمت ولما قبلتها انسحبت من بين ذراعي في حدة مبتسمة وقالت: حبكت! عدت أعانقها فطيبت خاطري وترفقت بمشاعري غير المبررة من وجهة نظرها ... جلسنا علي كنبة وسرعان ما قفزنا مبتعدين فقد كانت علي السوست فقط فانتقلنا إلي غيرها... ضحكنا, وظللنا نضحك كلما تذكرنا تلك الأيام عزمت اليوم بعد أن تتداعي المظاهرة ويتناثر الناس وتشرع اللوريات الخضراء في جمع الجنود المنهكين علي أن نتحرك باتجاه شارع الصاغة لاشتري لها هدية ثمينة لعيد ميلادها... لكن عدد المتظاهرين كان للغرابة يزداد بشكل مطرد وكثيف... نظرت إليها وكانت شاردة... قالت: في عام68 خرجنا مع المتظاهرين نطلب القصاص,, وفي عام17 خرجنا نطلب الحرية من المحتلين وفي عام77 خرجنا نطلب الخبز, واليوم يصعب علي الحصر ما نطلبه. ناولتها يدي حتي تنهض... وقفت وتنفست بعمق.... قلت لها: هل ستخرجين معي في المظاهرة القادمة؟ قالت بعد لحظة وهي تبتسم: المهم أن يتوافر الأيس كريم. ضحكنا, وكنت أبالغ في ضحكي بعد أن لاحظت أنها استعادت بعض عافيتها,سألتها عما تحب أن أقدمه لها هدية في عيد ميلادها.. ابتسمت ابتسامتها الوديعة التي تضئ العالم, طال صمتها.. شجعتها قائلا: اطلبي ما تشائين دنت مني وقبلت خدي.. وضعت يدي علي صدرها.. كان قلبها يدق بسرعة دقات واهنة..كاد الدمع يفر من عيني.. قالت: ربنا خليك لنا.. أنت هديتي عندئذ انفجر نبع الدمع وسال من عيني ثم من عينيها.. تعانقنا.. بداخلنا سكن العالم وتمدد في هدوء. بدا أننا نقبع في منطقة نائية علي تخوم الدنيا الحزينة ووجه الشمس الغاربة يودعنا بحنان.. منذ الصباح لم نر أثرا للحمام ولا للعصافير.. حلقت بعضها فوق رؤسنا وزقزقت العصافير وطاردت بعضها.. علت وانخفضت.. عبرت عن بهجتها بانتهاء الصخب والعنف...لم نفرح طويلا فقد بلغتنا أصوات عالية.. كان الجنود المدججون بالدروع والعصي والخوذات والأوامر الغليظة يطاردون مجموعات كبيرة من الشباب, والشباب يتصدون لهم ويشكلون جدارا متماسكا وقويا لا يتأثر بالضرب ولا بالقنابل. قالت إلهام الشعب يطارد الشعب قلت: الشرطة أدوات السلطة تنهدت بأسي.. أشفقت عليها.. مددت يدي وأمسكت بيدها التي كانت لا تزال مبللة.. قمنا ننقش الخطو الوئيد علي أرض صلبة وعنيدة... تدريجيا دبت العافية في رفيقتي. مضينا إلي محلات الذهب.. قالت: لا داعي للتكاليف.. تكفي وردة.. يجب أن نعود.. سوف يملأ الأولاد والأحفاد بيتنا بالهدايا والحلوي. عزمت علي أن أهديها خاتما ومعه باقة من الورد الذي تحبه.. هديتي غير هدية الأبناء.. رحب بنا نصيف في محله الذي اعتدنا الشراء منه.. وافقت علي الخاتم الذي اختاره نصيف..مضت تتأمله وهو في أصبعها.. كان رائعا بالفعل قلت لها: حان وقت الأيس كريم من قلبها ضحكت.. احمر لأول مرة وجهها الذي فقد بهاءه منذ خرجنا في الصباح نأكله في المظاهرة القادمة. لا أدري لماذا شعرت بحالة من القلق بعد أن نفدت عبارتها إلي أعماقي.. قلت ليتنا لا نحتاج إليها. عندما انتهينا من الأيس كريم ودارت الألسنة في الحلوق تتذوق آثاره اللذيذة.. رن عاليا محمولي فانتفضت وجاءني صوت ابنتي سهام صارخا.. ومتعجلا: تامر في المستشفي بعد أن تلقي ضربات عنيفة في المظاهرة.. صرخت زوجتي عندما علمت.. ضربت صدرها وهي تصرخ: حبيب قلبي.. اطلب تاكسي بسرعة بربع لسان فقد تحطمت أحرف الكلمات قال تامر أصغر أبنائنا بينما وجهه ملتف بالأربطة: أبدا.. لن نتركهم يسرقون البلد أنا وأمه تبادلنا النظرات وتنهدنا... لم أفهم السر في أني شعرت ببعض الرضا رغم حالة تامر.. جميل أن يكون في الدنيا بشر لا يعرفون الانكسار.. مضينا نحدق في وجهه ونبحث عن ملامح الأيام المقبلة.