في الدول التي تتمتع بالأنظمة الشمولية, ذات الأيدولوجيات النرجسية, الطامعة في كراسي الحكم إلي أن تفني البشرية, تتوقف عقارب الزمن عند يوم المجد, ذلك اليوم الذي جاءوا هم فيه إلي سدة الحكم; وهو بالنسبة لهم يوم مشهود دقت فيه نواقيس التاريخ, وعلمت فيه كل نفس المعني الحقيقي النفيس للعزة والكرامة, وتبدلت جلود المواطنين والوطن لتستقبل عهدهم الجديد المفترشة سبله بسنابل القمح, وأكاليل الغار, ونسائم الريحان والياسمين, علي خلفية زئير آلات المصانع,تتنفس دخان الإنتاج المتصاعد تباعا من فوهات المداخن العملاقة إلي عنان سماء الحرية.. أي كلام!! ولأن مثل هذه الأنظمة( وتوابعها) تكون مفعمة دائما باليقين( وليس مجرد الأمل) في البقاء,فإنها تغفل في أثناء تشبثها بذكري هذا المجيء المبرور أن في احتفالها وتفخيمها وتعظيمها لهذه الذكري بطول مدة بقائها علي كرسي الحكم, ما يعد في حد ذاته أكبر دعاية ودعوة للناس أجمعين للإقدام علي نفس الفعلة بعد ذلك!! ولم لا ؟ وهم الذين تربوا علي الدعاية المكثفة لفكرة المجد المبني علي( الإطاحة) بالأنظمة الفاسدة العفنة, فيكون من البديهي أن تتوق أنفس الناس بالتالي إلي بزوغ عهد جديد مفترشة سبله بسنابل القمح, وأكاليل الغار, ونسائم الريحان والياسمين علي خلفية زئير آلات المصانع.. إلي آخره من أكلاشيهات الثورية والوطنية!! وأذكر من بين ما أذكر ذ ذ نهر دجلة سباحة في أعقاب اشتراكه وأعوانه في( اغتيال) الرئيس عبد الكريم قاسم!! نعم.. لقد كان صدام يخلع ملابسه في ذلك اليوم المشهود من كل عام ويقفز في مياه النهر ليسبح ذات المسافة,تحفه جوقة من الحراس الشخصيين هذه المرة وليس زملاؤه( القتلة), ليستعيد ذكريات شبابه الثوري, متصورا أنه يعزز في أذهان الشباب معاني البطولة, وهو الذي أغفل أنه في حقيقة الأمر يشجعهم ضمنيا علي الحذو حذوه ما إن تواتيهم الفرصة لذلك.. وهذا هو مكمن الخطر!! وأذكر من بين ما أذكر- وجميعنا يذكر الأخ العقيد قائد( الثورة) الليبية, وحديثه المتصل غير المنقطع أبدا عن الثورية والنضال والتقدمية في مواجهة( طغاة) الإمبريالية وما إلي ذلك من عبارات مطاطية( خزعبلية) تنم والعياذ بالله عن اختلال القوي العقلية!! فلقد وقف الأخ العقيد يصدح وسط الجموع لمدة تجاوزت الأربعين عاما من عمر شعبه بهذه المفاهيم, متصورا أنه يعزز معاني بطولته هو, ويبرر وجوده هو,وهو ينفخ جاهدا في بالونة الثورية, حتي كان أن جاء اليوم الذي عبرت فيه الجموع عن إيمانها المطلق بالثورية التي نادي من أجلها صاحبنا فعلا, فكان خير جزاء له علي هذا السعي الدءوب المشكور أن ثاروا عليه هو شخصيا!! فما كان منه إلا أن طفق يسألهم: من أنتم ؟ صحيح, من هؤلاء بالنسبة له ؟ فلقد تصور الرجل أن الحديث عن ثوريته وثورة الفاتح المجيدة طوال أربعين سنة سيخلف مؤمنين به وبثورته وليس ثورة مضادة.. وهذا هو مكمن الخطر!! وفي مصرنا الحبيبة, قامت ثورة يوليو المجيدة و( أطاحت) وقتئذ( بالنظام الفاسد) الذي شجع( الواسطة والمحسوبية) وسرق قوت الشعب وشجع علي( الإقطاع) وأكل حق( العامل والفلاح) وتعاون مع( المستعمر) في غير صالح أبناء الوطن, فخرج من بين أبنائه حفنة من بواسل ثاروا لأجل العزة والكرامة وأعادوا الحق لأصحابه وبشروا بسنابل القمح وزئير آلات المصانع... إلي آخره!! وبغض الطرف عمن الذي ثار علي من, سارت عجلات تجريد المشهد مع مرور الأيام واختزل الحل دائما في فكرة الثورية ذاتها, باعتبارها الأمل الوحيد المتاح للتغيير,ذلك الأمل الذي لم يسقط عاما من الذاكرة,نحتفل به, ونتغني بأغنياته, ونستدعي شجونه حتي وإن لم نكن قد عايشنا اللحظة الفعلية لقيامه,فعاشت تلك اللحظة فينا ولم يحدث أن خبت جذوتها عاما في ذاكرة الأجيال تمجيدا لثورة( الشعب) علي الفساد والفاسدين و ز.. ز ز ولآخر المدي ثوار... حتي أن التليفزيون المصري حين أراد أن يساير خطوات ثورة25 يناير فإنه راح يمطرنا بأغنيات ثورة23 يوليو علي خلفية مشاهد ثورة25 يناير!! هذا في الوقت الذي رفع فيه كثير من ثوار25 يناير صور الزعيم( الراحل) جمال عبد الناصر في المقابل فعلا في قلب المشهد, ودون تنسيق أو اتفاق مع التليفزيون المصري علي الربط ضمنيا بين الثورتين.. ولكنها دهاليز اللاوعي القابع في العقل الجمعي المصري عموما علي الجانبين!! الخطأ هنا ليس في كوننا نحتفل, ولكن في كوننا نتمادي في الاحتفال ونتمادي,ليس فقط في اللعب علي أوتار التذكرة, وإنما في العبث بهذه الأوتار, اعتقادا بأن ما قد حدث هو آخر ما يمكن أن يحدث; وكأننا نتصور دائما أن السلاح الذي نستخدمه في الإطاحة( بالماضي) هو سلاح قادر حتما علي مصادرة( المستقبل) أيضا!! أما المضحك فهو أننا في غمرة ونشوة المجد من هذا النوع فإننا ننسي,أو ربما نتناسي عمدا, أننا لسنا وحدنا الذين قد صنعوا المجد في العالم يوما, وإنما هناك شعوب غيرنا كثيرة قد فعلت ذلك; أما الفرق فهو أننا نتشبث بأمجادنا تلك علي طريقة الغريق والقشة, في حين أن العالم لا يتوقف عند منجزاته التاريخية إلي هذا المدي الذي نتوقف نحن عنده أمامها, وهي الإنجازات التي تعد بالقياس لإنجازاتنا أكبر في أحيان كثيرة; فليس من عاقل يستطيع أن ينكر علي سبيل المثال ذلك الإنجاز الكبير الذي حققه الحلفاء بانتصارهم الثمين علي ألمانيا النازية, ذلك العملاق الأوروبي الذي كادت الأرض أن تميد من تحت قدميه فعلا ما لم يستوقفه الحلفاء!! ومع ذلك لم يحدث وأن شاهدنا الإعلام الغربي وهو سيد الإعلام حاليا بالمناسبة يلعب بكروت التذكرة والتجييش النفسي كلما جاء موعد سقوط برلين: فإذا بالإرسال وقد انقطع, ثم إذا بالمارشات العسكرية والأغنيات الثورية تملأ الشاشات لتلهب مشاعر الجماهير, وتستعيد أوراق الماضي, تبدرها في سماء أوروبا وأمريكا فرحة بيوم المجد العظيم الذي تهاوت فيه قلاع برلين تحت أقدام العزة والنصر في يوم أطل فيه فجر الحرية علي أوروبا والعالم... وما إلي ذلك من أكلاشيهات بالية!! وليس معني ذلك أنهم لا يحتفلون, بلي بل أنهم يحتفلون بالذكري ولكن في حدودها المنطقية; ذلك لأنهم تجاوزوا هذه المرحلة الشوفونيه, ولا يستطيعوا أن يوقفوا عجلات الزمن عندها كما نحن نفعل, وإلا لظلت ألمانيا وشعبها منبوذين ما دامت هذه الذكري تنبض في ذاكرة الأجيال!! ولعل أكبر دليل علي صحة كلامنا هو ذلك الاحتفال المتواضع( جدا) الذي أقيم منذ يومين تحديدا احتفالا بالذكري الثانية والعشرين لسقوط سور برلين!! احتفال أجريت مراسمه علي جسامة الحدث التاريخي في احدي الكنائس المجاورة لمكان السور القديم. احتفال اقتصر علي كلمات مقتضبة لبعض المسئولين( الثانويين) وأشعل فيه الحضور بعض الشموع!! وشكرا. وأخيرا.. إن السعي الدءوب للحفاظ علي تأجج روح الثورات والأحداث العنترية( لمدة طويلة) هو بمثابة نفخ دائم في نيران زالت الأسباب الحقيقية لاشتعالها!! فبدلا من أن يطفئها الناس,إذا بهم يتناقلون قبسا منها هنا وهناك طوال الوقت, فأصبحت هذه القبسات سببا( مستقلا) في اشتعال حرائق أخري, فاعتادت الأنوف رائحة الدخان وهذا ايضا مكمن الخطر!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم