منذ أيام قليلة فاجأتني ابنتي صبا التي لا يزيد عمرها علي خمس سنوات بترديدها أغنية( يا حبيبتي يا مصر) بأداء صوت مصر الجميل الفنانة الكبيرة شادية, والتي لحنها بعبقريته المعهودة الموسيقار بليغ حمدي, وفي اليوم التالي وجدتها تردد( يا أغلي إسم في الوجود يا مصر) والتي ابدعها الموسيقار الراحل محمد الموجي وغنتها السيدة نجاح سلام. وعندما سألتها لماذا ترددين هذه الاغاني أجابت بتلعثم ممزوج ببراءة شديدة إنها أغاني الثورة يا بابا- تقصد بالطبع ثورة25 يناير وهنا أدركت أن عشرات الأغاني الوطنية التي قدمها مطربو الجيل الحالي والتي قدمت علي مدي العشرة أشهر الماضية لم تترك أثرا يذكر في وجدان أي شخص حتي الأطفال الصغار الذين ينتمون بحكم سنهم وآمالهم وأحلامهم لهذه الثورة المجيدة رغم أن كثير من أبناء هذا الجيل يعتبرها من اعظم الثورات التي حدثت في تاريخ مصر المعاصر. وبرغم غثاء السيل من أغنيات هذا الجيل والتي احتلت- تقريبا- كل محطات التليفزيون والراديو خلال الشهور الماضية فلم يعلق في ذهن الجمهور المفعم بروح الثورة جملة موسيقية أو كلمة واحدة تبعث علي الحماسة في قلب ميدان التحرير أوغيره من ميادين شهدت اعتصامات وجمعات من الغضب والصمود والتحدي والتحدي وتقرير المصير وماشابه ذلك, وخاصة الأغنيات الوطنية التي قدمت أثناء وبعد ثورة25 يناير, ولقد أفقنا علي أن كل ما علق بذهن جيل الثورة من أغنيات وطنية هي في أصلها تنتمي للون القديم. والأمر الذي أحزنني أكثر, وجعلني أتساءل في دهشة: كيف اشتعلت أعظم ثورة مصرية علي مر العصور بجذوة أغنيات وطنية قديمة من دون أن تمهد لها أو تواكبها أغنيات وطنية جديدة متفردة تتسلل بجمالها إلي وجداننا جميعا, وتكون عنوانا لهذه الثورة المدهشة ؟ كما حدث مع مئات الأغاني الوطنية الرائعة التي ارتبطت بالثورات السابقة مثل أغنيات بلادي بلادي وقوم يا مصري والتي قدمها الشيخ سيد درويش مع اندلاع ثورة1919, و ع الدوار.. ع الدوار لمحمدقنديل, وكنت في صمتك مرغم لمحمد عبدالوهاب, ومصر تتحدث عن نفسها لأم كلثوم, والتي ترتبط ارتباطا شرطيا بثورة1952, وحتي في هزائمنا وانتصاراتنا لا يمكن أن ننسي أن موال النهار لعبدالحليم حافظ هي أجمل أغنية عبرت عن نكسة يونيو1967 بكلمات الأبنودي ولحن بليغ حمدي, حتي أنه بمجرد أن قال عدي النهار والمغربية جايه تتخفي ورا ضهر الشجر وعشان نتوه في السكة شالت من ليالينا القمر إلي أن وصل إلي وبلدنا ع الترعة بتغسل شعرها جانا نهار معرفش يدفع مهرها حتي زالت كل آثار الهزيمة, وحتي نشيد بسم الله... الله أكبر وأغنية ع الربابة وكلاهما يذكرنا بإنتصاراتنا في حرب أكتوبر1973, وغير ذلك الكثير مما تحويه الذاكرة من أغنيات وطنية حماسية كان لها مفعول السحر إلي حد أن كانت وقود تلك الثورات والمحرك والمحرض لنبض الجماهير في الشارع جنبا إلي جنب مع الجندي علي خط النار, وعلي الرغم من أنها قدمت في مناسبات وطنية عديدة فلانملك فور سماعها غير التفاعل معها وكأنها أعدت لأول مرة ولاتذكرنا فقط بالحدث الذي قدمت فيه, بل تملك القدرة علي استحضارها أمامنا من جديد. الأهرام استطلعت رأي مجموعة من المتخصصين عن سبب عدم نجاح أي أغنيات وطنية واكبت ثورة25 يناير بإستثناء أغنيتي إزاي للفنان محمد منير, ويا بلادي يا بلادي لعزيز الشافعي ورامي جمال, والفضل فيها ينسب لبليغ حمدي مبدع اللحن الأساسي. هزيلة ومستهلكة في البداية يقول الموسيقار حلمي بكر: جاءت أغنيات ثورة25 يناير ضعيفة وهزيلة وإستهلاكية ولا ترتقي لثورة غير مسبوقة في تاريخ مصر المعاصر, وكان ينبغي أن يكون العمل الذي يقدم بهذه المناسبة يليق بحجم الحدث لكن للأسف الشديد تعامل الشعراء والملحنون الحاليون بنوع من التقليدية مع الثورة وقدموا مفردات مستهلكة وألحانا فقيرة غير حماسية,ولم يستطع مبدع من المبدعين الحاليين أن يكون رد فعل للفعل الجيد, بل أصبح كل من هب ودب صاحب قضية ويدعي أن له دورا غنائيا وطنيا, وتحرك الجميع بدافع تسديد خانة وليس بدافع إيمان بالثورة التي غيرت مفاهيم كثيرة عنا أمام العالم, لهذا لم ينجح أحد بإستثناء أغنية أو أثنتين علي الأكثر. ويضيف بكر: كنت أتمني أن يكون الإبداع الغنائي غير مسبوق مثل ثورة25 يناير غير المسبوقة علي مستوي الفعل السياسي, لكن خاب ظني, لهذا لم تجد وسائل الإعلام المرئية والمسموعة غير تراث الثورات والأجيال الماضية وإذاعته وعرضه, ونظرا لصدق هذه الأعمال لاقت نجاحا كبيرا وكانت اكتشافا للأجيال الجديدة التي لم تعاصرها, ولقد شعر الجميع كإنها وليدة اليوم رغم أن بعضها قدم منذ أكثر من خمسين عاما مثل يا أغلي إسم في الوجود يا مصر التي ألهبت مشاعر شباب ميدان التحرير, وكذلك أغنية يا حبيبتي يا مصر التي قدمت تقريبا منذ أربعين عاما. أغنية عرجاء ويتفق الشاعر الكبير مصطفي الضمراني صاحب رائعتي حبايب مصر التي غنتها المطربة التونسية الراحلة عليا, بألحان حلمي بكر, وأقوي من الزمن التي غنتها شادية من ألحان العبقري عمار الشريعي ويضيف: ما إستمعنا إليه من أغنيات في ثورة25 يناير لا يمت بصلة لهذه الثورة الرائعة ومبادئها الثلاثة, ولا يرقي ابدا إلي عظمة هذه الثورة التي غيرت وجه الحياة في مصر وأثارت إهتمام العالم كله بإعتبارها ثورة سلمية قادها مجموعة من الشباب في عمر الزهور تواصلوا مع بعضهم بعضا عن طريق الفيس بوك, ولم يعقدوا إجتماعات ولا إتفاقات وإنما فكرهم تجمع حول مصلحة مصر العليا, وضرورة تغيير الحياة ونبذ الظلم وتحقيق الديمقراطية والعدالة الإجتماعية, هذه المعاني جميعا لم تستطع أي أغنية من التي إستمعنا إليها أن تعبر عن هذا المحتوي, والجملة الموسيقية الوحيدة التي نجحت وتقول يا بلادي يا بلادي... أنا بحبك يا بلادي مسروقة من لحن العظيم بليغ حمدي, وباستثناء هذه الجملة لم تستطع الأغنيات التي قدمت أن تجذب المستمع ولا المواطن الذي فرح بالثورة وتباهي بها, وهذا يدل علي أن الذين كتبوا هذه الأغاني ارتجلوها في جلسات دون أن يوجههم أحد أو يستعينوا بأحد من جيل الرواد أو حتي يقرأوا أغاني هذا الجيل حتي يتمكنوا من كتابة أغنية تليق بثورة25 يناير. لذلك فإن أغنيات شباب25 يناير لا ترقي لكلمة أغنية, بل إنها عرجاء بلا رأس ولا قدمين!, وهذه الأغاني ظهرت وأصحابها متأثرين بتجار الكاسيت والفيديو كليب وما يتقاضونه من تجارة هذه الأغاني, ولذلك لم يستطيعوا أن يأسسوا أغنية واحدة تعبر عن الثورة, لأن الهدف عندهم ليس تجسيد أو تخليد الثورة ولكن الغرض منها كان مجرد إثبات إنهم كانوا موجودين فقط في ميدان التحرير, ولو كانوا أتوا لنا بشهود عيان يشهدوا بإنهم كانوا موجودين في ميدان التحرير لكان هذا أفضل من الأغاني التي كتبوها,وقد أذهلني معاني بعض هذه الأغاني فمثلا أغنية يقول شاعرها الود ودي أحضن ترابك بيدي ولا أدري ما الذي يمنع هذا المطرب من إحتضان تراب الوطن ؟! هل الأطباء منعوه من ذلك أم أن هذا التراب سيضر بصحته العامة!, بعكس لاعبي كرة القدم الذين نراهم في كل مباراة وبعد فوزهم يسجدون ويقبلون تراب الملعب ولم يصرخ لاعب منهم ويقول الود ودي!. ويضيف الضمراني: بصراحة ما حدث يجعلنا نترحم علي شعراء وملحني الأجيال الماضية الذين ملأوا الحياة بأغنيات لازالت تعيش في وجدان الناس حتي الآن, لهذا كان منطقيا جدا أن تعرض وتذاع أغنيات الجيل الذهبي للأغنية بإستمرار لإنها أغنيات خالدة. مجرد سبوبة أما الموسيقار الكبير خالد الأمير فله رأي خاص يقول: ما قدم لا يمت للغناء الوطني بصلة وهذا راجع لقلة خبرة الشعراء والملحنين والمطربين الذين قدموا هذه الأغنيات الوطنية, وخسارةالفلوس التي إنفقت علي هذه الأغاني التي جاءت مسلوقة, وغلب عليها الفهلوة والسرعة, والخوف من عدم اللحاق بالحدث وعدم المشاركة, والمثير أنني لاحظت أن بعض المطربين كتب ولحن الأغنية التي قدمها, وبعضهم لم يكتف بالكتابة والتلحين فقام بالتوزيع, وإخراج الأغنية بطريقة الفيديو كليب, وهذا يدل إنهم تعاملوا مع ثورة25 يناير وكإنها مجرد سبوبة وليس حدثا مهما غير وجه الحياة في مصر.