حين يتعلق الأمر بالحقوق الاقتصادية للمصريين, فإن أولي مهام دولة المواطنة أن تجسد حقيقة أن تكون مصر للمصريين. ويعني هذا, أول ما يعني, حماية الأمن الإقتصادي القومي, بمضاعفة قدرة وتنافسية الإقتصاد الوطني, وحماية السيادة الإقتصادية الوطنية. ولنتذكر أنه رغم إنجازات مشروعات ومحاولات التنمية والتصنيع خلال القرنين الماضيين, فقد بقيت مهمة بناء دولة المواطنة; أن تحرر الإقتصاد المصري من أسر التخلف. أقصد عدم بناء القدرات الإقتصادية اللازمة لإنتاج سلع وخدمات ذات محتوي تقني راق; ومن ثم قيمة مضافة عالية, والقدرات التنافسية التي تمكن من إنتزاع نصيب متزايد من الثروة العالمية; عبر التجارة والإستثمار. وحتي يتعزز الأمن الاقتصادي القومي, لا بديل عن مضاعفة قدرة وتنافسية الإقتصاد الوطني, وحماية السيادة الإقتصادية الوطنية, أي تحقيق شرطي حماية بقائها وحدودها واستقلالها وسيادتها ووحدتها واستقرارها ومصالحها وقيمها ومؤسساتها لتبقي مصر للمصريين. وحتي يمكن تعظيم ما تملكه الأمة من عوامل القوة الاقتصادية الوطنية, وتقليص ما تعانيه من مصادر التهديد الإقتصادي الخارجي, لا غني عن ارتقاء التصنيع, وتسريع التنمية, وتحديث الزراعة, وتأمين الطاقة, ومضاعفة الانتاجية. وفي هذا السياق, فإن علي دولة المواطنة أن تجابه تحديات بيئة إقتصادية عالمية تحفل بالقيود بأكثر مما توفر من الفرص, للبلدان التي تأخرت عن اللحاق بعصرها مثل مصر. وحتي يتجسد شعار المواطنة هي الحل, في رؤية شاملة وخريطة طريق ودليل عمل لمواجهة التهديدات التي تجابه الأمن الاقتصادي القومي, ومن أجل تحقيق وتعزيز الحقوق الاقتصادية وغير الإقتصادية للمواطنة, فإنني ألخص فيما يلي التحدي والإستجابة. أولا, أن مضاعفة القوة الإقتصادية والتنافسية العالمية لمصر, يتطلب منها أن تستجيب لتحدي اللحاق باقتصاد المعرفة وتحدي العولمة الإقتصادية. وبغير هذا تستحيل مجابهة مخاطر تهميش الإقتصاد المصري مثل غيره من الإقتصادات, التي تخلفت عن عصر التصنيع من قبل, وعصر المعرفة من بعد. وأن تستجيب لتحدي العولمة الاقتصادية, الذي تعاظمت تهديداته نتيجة عدم إنصاف قواعد العولمة وإدارة مؤسساتها وحصادها, في ظل معطي اختلال هيكل توزيع القوة العالمية, الاقتصادية والشاملة, وعمل القوي الاقتصادية الكبري علي إملاء أجندتها. وأن تستجيب لتحدي اشتداد نزعات التكتل الاقتصادي, الإقليمي وعبر الإقليمي, بين الاقتصادات الصناعية المتقدمة والصاعدة, مع ضعف وقيود هذا التكامل أمام الاقتصاد المصري. وثانيا, أن مضاعفة نصيب مصر من الثروة العالمية, يفرض عليها أن تبني أسس تكافؤ إندماجها في إقتصاد' العولمة'. وبغير هذا لن تتمكن من مجابهة تحديات الجديد في اتفاقيات منظمة التجارة العالمية, التي, ولأول مرة, أتت بكثير جديد منذر. أقصد, إدراج حماية حقوق الملكية الفكرية, بما ضاعف قيود وتكاليف نقل التكنولوجيا والمعرفة وزمن شيوعها, وقلصت فرص التقدم بالوسائل التاريخية للهندسة العكسية. وتحرير تجارة السلع الزراعية, ففجرت أزمة الغذاء, ولم تتصد للمضاربة الوحشية علي أسعار الغذاء, بل ولم تجابه التوسع غير الإنساني في زراعة مواد الوقود الحيوي علي حساب الغذاء. وتحرير تجارة الخدمات, شاملة الخدمات المالية, فأضعفت الضبط الضروري لتدفقات رؤوس الأموال خاصة الساخنة. وإلغاء حصص المنسوجات; فكرست المنافسة غير العادلة مع البلدان المصدرة رخيصة العمالة. وتقليص حماية المنتجات الوطنية, بطرح موضوعات الاستثمار والمنافسة الوطنية والمشتريات الحكومية; فحرمت الصناعات الناشئة والاستثمارات الوطنية من الدعم والحماية. وثانيا, أن مضاعفة فرص مصر في العولمة, يفرض عليها أن تعمل علي عودة أو إستثمار المهاجرين من فنييها وعلمائها, بدلا من تصدير البشر. ويتطلب هذا, تأهيل العمالة غير الماهرة, وتصفية أسباب طرد نخبة العلماء وأصحاب المهارات من أبنائها, ووقف نزيف عقولها. ولنتذكر هنا إزدواج معايير البلدان الصناعية, التي تقيد استقبال العمالة العادية, بينما تحفز هجرة العقول النابهة. وعلي مصر, أن تدرك أن تصدير ما يتمتع من منتجاتها بمزايا تنافسية, جودة وسعرا, هو سبيل تخطي الحواجز الحمائية الجديدة, التي تمارسها البلدان الصناعية; تقييدا للوصول لأسواقها بذريعة التجارة' العادلة', ثم لمواجهة تداعيات الأزمة العالمية. ويتوجب علي مصر في ذات الوقت أن تصفي ذرائع تعسف البلدان الصناعية في تطبيق اشتراطات ظروف العمل وعمالة الأطفال وحماية البيئة والمواصفات القياسية وحقوق الإنسان.. إلخ. وثالثا, أن بناء اقتصاد سوق مفتوح في مصر, يتطلب تعظيم فرص ومكاسب وقدرات, وتقليص قيود وخسائر وتهديدات, إقتصاد المعرفة والعولمة. أقصد وضع الضوابط التي تحمي الاقتصاد القومي من مخاطر قصور ضبط تحرير قطاع المال وتدفقات رؤوس الأموال الساخنة من والي الخارج. وأقصد إنفراد الدولة الوطنية بسلطة صنع القرار الاستراتيجي في اختيار النظام الاقتصادي والاجتماعي الوطني. وفي ذات الوقت, يتوجب تقليص الإنكشاف الاقتصادي الوطني بوجه التقلبات والضغوط والأزمات والتهديدات الاقتصادية الخارجية, بتعزيز الأمن التكنولوجي, وأمن المياه والغذاء, والطاقة, وأمن البيئة, وأمن المعلومات, والأمن الإنساني. ورابعا, أن بناء أسس التكافؤ والإنصاف في النظام الاقتصادي العالمي, بإنجاز التصنيع وتسريع التنمية, يتطلب نقل التكنولوجيا والمعرفة وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر. لكن هذا, ينبغي أن يكون مشروطا بأن تكون تدفقاته وفقا للأولويات التنموية الوطنية; وأن تحتفظ الأمة بسيطرتها علي مواردها وثرواتها الطبيعية ومرافقها الأساسية, مثل الطاقة والنقل والمواصلات والإتصالات. وفي سعي مصر الواجب إلي المشاركة في التخصص العالمي والتجارة العالمية; ينبغي تمكين رأس المال الوطني في السوق الوطنية, وإنفراد الأمة بتحديد إتجاه التنمية الاقتصادية الوطنية وإحتفاظها بسيطرتها علي الصناعات والمؤسسات والتكنولوجيات الرئيسية. وخامسا, أنه في ظل مصاعب ومطالب ما بعد ثورة25 يناير, قد لا تملك مصر ترف أن ترفض المتاح من مساعدات عربية وأجنبية غير مشروطة بما ينتقص من سيادتها الإقتصادية الوطنية. وعلي مصر أن تقبل التمويل المتاح من الصناديق الإنمائية العربية والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي, بقدر الحاجة الماسة, علي أن توظفها ليس فقط من أجل تخطي أزمة سيولة عابرة, وإنما فيما يضاعف قدراتها الإنتاجية. بيد أنه ينبغي تجنب الوقوع في فخ المديونية الخارجية مجددا, وأن يكون الإعتماد علي المعونات متناقصا; لتحول دون الرضوخ لشروط المانحين وإملاءاتهم بشأن النظام الاقتصادي والاجتماعي, وإتجاهات ومعدلات التصنيع والتنمية. وأخيرا, أتصور, في ضوء ما سبق وإضافة إليه, أن استراتيجية الأمن الاقتصادي القومي المصري في دولة المواطنة ينبغي أن تجابه ثلاثة تحديات أساسية. الأول, مضاعفة القوة الاقتصادية والتنافسية العالمية; بتعظيم القوة الاقتصادية, وخاصة بوضع وتنفيذ إستراتيجية للتصنيع والتنمية, وإنجاز التقدم الصناعي التكنولوجي في ظل معطيات عصر المعرفة واقتصاد العولمة, وتسريع التنمية الاقتصادية الشاملة بالاستفادة من مزية تنوع الإقتصاد المصري. والثاني, تقليص الإنكشاف الاقتصادي للوطن, بمجابهة فجوات الموارد التمويلية والبشرية والمعرفية والتكنولوجية وموارد الغذاء والمياه والطاقة, وتعظيم العائد الأمني والاقتصادي للإنفاق العسكري والأمني. والثالث, بناء نظام اقتصادي واجتماعي, يستمد شرعيته من تحقيق الكفاءة الاقتصادية وتعزيز العدالة الإجتماعية, ويعزز الأمن الإنساني للمصريين, بتوفير تحسين مطرد في مستوي معيشتهم ونوعية حياتهم, وحماية جميع حقوقهم الإقتصادية والاجتماعية والإنسانية. وللحديث بقية. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم