ذات مساء, اختفي الامبراطور من القصر. ولم يعثر الجنود والحراس علي مكانه. واجتمع أشراف روما وكبار المسئولين في بهو القصر. وأعربوا عن اعتقادهم بأن حزن الامبراطور كاليجولا علي موت شقيقته قد دفع به إلي مكان مجهول ليذرف الدمع عليها. وطال اختفاؤه أياما, وساورتهم الهواجس. وكادوا أن يختاروا امبراطورا جديدا لروما. وبينما كانوا يتداولون في ذلك.. فاجأهم كاليجولا بعودته. وكان شارد الذهن. وبرر اختفاؤه بأنه كان يبحث عن القمر. فقد كان يود أن يمتلكه حتي تكتمل أبهة عرشه. وهكذا مس الجنون الامبراطور. وأصبح فظا وقاتلا وسفك دماء الأصدقاء والاعداء. وأشاع الرعب بين أهل روما. وجري التآمر عليه وقتله. هذه فكرة مسرحية كاليجولا للكاتب والمفكر الفرنسي ألبير كامو الفائز بجائزة نوبل للأدب وقد كتبها عام1938, إبان صعود جحافل النظم الاستبدادية النازية والفاشية في المانيا( هتلر) وايطاليا( موسوليني) وإسبانيا( فرانكو). ولم يتسن تمثيلها علي خشبة المسرح إلا عام1944, أي قبل نحو سنة من نهاية الحرب العالمية الثانية. وكأن العرض المسرحي كان نبوءة بنهاية الطاغية النازي هتلر الطغاة الحمقي والمجانين يصنعون بأيديهم الملطخة بالدماء الموت الذي يستحقونه. ولم يفر احد منهم من الموت قتلا واغتيالا. وكان آخرهم القذافي الذي عثر عليه الثوار مختبئا في أنبوبة للصرف الصحي. القذافي, الذي نصب نفسه ملك ملوك افريقيا, بلغ أوج رعونته وذروة حماقته في سبتمبر2009, فقد اعتلي منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة ليلقي خطابا في خمسة عشرة دقيقة طبقا للمراسم, لكنه ظل يتحدث نحو ساعة أو يزيد. وكان كلامه غائما ومبهما. ودعا الي نقل مقر الأممالمتحدة الي ليبيا. وكأنه كان يأمل في أن يصبح ملك ملوك الدنيا. وعندما غادر مقر المنظمة الدولية, التفت حارساته الحسناوات من حوله. وفجر لغطا وصخبا حول مكان ينصب فيه خيمته.. خيمة الفيلسوف الذي تجاوز بكتابه الأخضر الرأسمالية والاشتراكية. وهو كتاب اصدره عام1976 ولم يكتف الطاغية باختطاف السلطة ونهب الثروة, وانما تعمد تجريف الثقافة, وحصار المثقفين بالاسلاك الشائكة. فقد تصور نفسه فيلسوفا ملهما, واديبا مبدعا. لكن مهمته الأساسية انه كان الجلاد الذي حول ساحات ليبيا الي منصات لاعدام المناهضين لنظامه. ولم تفلت الأجيال التي لقنها كتابه الأخضر من جرائمه. فقد شنق مجموعة من الطلبة وعلقهم علي أعمدة في الميدان الرئيسي في العاصمة طرابلس وتركهم حتي تعفنوا. وارتكب الطاغية مذبحة مروعة عندما أطلق جنوده الرصاص عام1996 علي المعتقلين في سجن بوسليم بالعاصمة. وكانوا قد طالبوا بمحاكمات عادلة وهو ما أثار غضب العقيد, وقتل نحو1200 منهم. ودفنهم في مقابر جماعية, وكشف الثوار جانبا منها إبان تحريرهم للعاصمة. وكان الروائي الليبي هشام مطر قد نبه الدنيا إلي تلك الجريمة في روايته في بلد الرجال التي نشرها بالانجليزية عام2006, وتم ترسيخها للفوز بجائزة أدبية كبري. وكان القذافي قد اعتقل والد هشام في هذا السجن, لانه من المعارضين لنظامه. القذافي أصبح أول طاغية يسجل الثوار صور اغتياله بكاميرات التليفون المحمول.. وبرغم بث التليفزيون هذه الصور, فإن جمهورا غفيرا من الليبيين أصروا علي أن يشاهدوا بأنفسهم جثمان الطاغية حتي يتأكدوا من موته والخلاص من جبروت استبداده وسطوة فساده.. وهكذا فعل أهل روما عندما أتاهم نبأ اغتيال الامبراطور المجنون كاليجولا. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي