فى الشهر الماضى، أمرت إحدى المحاكم فى القاهرة بإزالة صور الرئيس المصرى المخلوع حسنى مبارك وزوجته سوزان فضلا عن اسميهما من جميع «الساحات العامة والشوارع والمكتبات والمؤسسات العامة الأخرى فى مختلف أنحاء البلاد». وكانت الملصقات وصور مبارك وزوجته تحتل كل مكان بمصر. وتحمل ميادين، وملاعب رياضية، ومكتبات وشوارع وأكثر من 500 مدرسة اسميهما. وكان المقصود من هذه الإزالة بالأمر وضع نهاية لثلاثة عقود من حكم مبارك بالنسبة إلى الشعب المصرى. ولكن هل يساعدهم هذا على التنفيس والمضى قدما؟ لننظر إلى العصور القديمة بحثًا عن حدث سابق مماثل وعن التداعيات المحتملة. حيث كان «كتاب الموتى» فى عصر مصر القديمة يرشد أولئك الذين يرحلون إلى العالم السفلى فى مواجهتهم الأرواح التى تحرس البوابات فيقول الراحل: «افسح لى طريقًا، لأننى أعرفك وأعرف اسمك» قبل أن يواصل رحلته إلى الآخرة. وتحتوى الأسماء فى الثقافة المصرية قوة كامنة ويمكن أن تكون وسيلة للسيطرة. فعندما سعى الفرعون إخناتون تأسيس عقيدته فى التوحيد، أزال اسم الإله آمون المنافس من على جميع المعالم الأثرية فى أنحاء مصر. وكان الحكام عرضة أيضا لمحو أسمائهم مثلهم مثل الآلهة. فقد تعرضت الملكة حتشبسوت التى كانت وصية على ربيبها تحتمس الثالث، إلى طمس تاريخها تقريبا بعدما اعتلى العرش فى القرن الخامس عشر قبل الميلاد. فقد قام تحتمس، ثم ابنه أمنحوتب الثانى بإزالة صورتها من الآثار والنقوش والتماثيل والخراطيش والقائمة الرسمية للحكام فى مصر، فى محاولة ربما لتأكيد شرعيتهما. ولم تكن مصر فريدة فى هذا. ففى العالم الرومانى كان يطلق على تدمير الصور بموجب مرسوم حكومى «إدانة الذكرى». وكان مثل هذا المرسوم يعنى كشط اسم المدان (بصورة واضحة غالبا) من النقوش، وكشط وجهه عن التماثيل، ويجرى إيذاء التماثيل أنفسها كما لو كانت أشخاصًا حقيقيين وتزال الجداريات المرسومة له، كما تزال أقنعة الشمع التى على صورته من مواكب تشييع الجنازة، ويتم تشويه قطع العملات التى تحمل صوره، وتدمير كتاباته وإلغاء وصاياه. وكان الرومان يعتبرون ذلك أسوأ من عقوبة الإعدام: النسيان كمصير. وقد عانى ذلك أباطرة عديدون فى أوائل عهد الإمبراطورية الرومانية، وحتى فى التاريخ اللاحق للإمبراطورية، كان ذلك وصمة عار كبيرة. وبعد أن خضع المتمرد ماكسيميان لإدانة الذكرى نحو عام 311 الميلادى، قيل إن صديقه وشريكه فى الحكم دقلديانوس أمضه الحزن حتى أنه سرعان ما توفى هو أيضًا. وكان حذف ذكر أمثال ماكسيميان من اللوحات الجدارية والتماثيل يعتبر ببساطة إعلانا من الحكام للجماهير عن انتهاء عهد وبداية عهد آخر. ولكن عندما تشارك الجماهير فى عملية التدمير نفسها، يمكن أن يكون لذلك نتائج شافية. وطبقا لما يقول المؤرخ سوتونيوس، ففى أثناء الفوضى التى أعقبت اغتيال الإمبراطور كاليجولا عام 41 الميلادى «أراد البعض حذف كل ذكرى للقياصرة وتدمير معابدهم». وفى نهاية الأمر أوقف الإمبراطور الجديد كلوديوس محاولة مجلس الشيوخ لإصدار قرار بإدانة ذكرى سلفه (وربما أراد بعد أن اعتلى العرش تجنب التغاضى عن قتل الملك). غير أن عبارة سوتونيوس تشير إلى أن عامة الشعب يريدون فرصة للتنفيس عن مشاعر الإحباط إزاء الفساد والوحشية البالغة فى عهد كاليجولا. وفى ظل المسيحية أيضًا ازدهر حظر الصور أيضا، رغم أنه كان يستخدم من أجل الانتقام، والإذلال أو الترويج للتشدد الدينى على نحو أكبر من كونه بغرض العدالة أو التنفيس. وفى فلورنسا عصر النهضة، فرضت إدانة الذكرى على الأعداء السياسيين لأسرة ميديتشى. وكانت الكنيسة البيزنطية معروفة بإزالة الزنادقة من على اللوحات البابوية، وكان البابوات الذين لا يحظون بشعبية فى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تتم إزالة صورهم فى عهود خلفائهم. ومن الواضح، أن كثيرًا من حالات التدمير هذه فشلت فى تحقيق الغرض منها. فمازلنا اليوم نعرف أسماء ما كسيميان وكاليجولا، ولم ينجح تحتمس الثالث وابنه فى محو حتشبسوت من سجلات التاريخ. فقد بقيت تماثيل لها، وبعد قرون من وفاتها كتب المؤرخ مانيتو عن الملكة الفرعونية. وقبل سنوات قليلة فحسب عرض متحف المتروبوليتان العديد من التصاوير الباقية لحتشبسوت فى معرض. ولا يماثل التاريخ ما يحدث فى مصر اليوم بالضبط. فمبارك وزوجته مازالا على قيد الحياة، وصورهما معلفة على الجدران وليست منحوتة فى مسلات. ومع ذلك، فقد أرست المحاكم المصرية سابقة تشبه كثيرًا الفراعنة المصريين ومجلس الشيوخ الرومانى بإصدارها أمر إزالة اسم وصور مبارك من الأماكن العامة. وبدلا من إنشاء سجل نظيف، ربما تكون كرست أخطاء الماضى. ومن السهل أن تدرك أصداء ممارسات مبارك القمعية فى النظام الجديد. فقد أظهرت حكومة مصر المؤقتة مستوى من عدم التسامح مع حرية التعبير على سبيل المثال، من خلال سجن الناشط مايكل نبيل سند «26 عاما» بتهمة إهانة الجيش. ولعله كان من الأفضل للمحاكم المصرية أن تتبع مثال كلوديوس وتعارض حظر صور مبارك. فقد كان ينبغى أن تسمح مصر للأفراد والمؤسسات الذين فى حوزتهم صور للرئيس السابق أن يقرروا بأنفسهم، ما إذا كانوا سيحتفظون بها، بدلا من أن تفرض عليهم إزالتها. فالسماح بتشويه الصورة شىء، وإصدار أمر بذلك شىء آخر. وقد شهد العالم القديم أيضا صعوبة التحرر من الماضى، فقد كان يتم أحيانا إعادة تدوير المنحوتات والمنقوشات، فبعد طمس وجه إمبراطور، يمكن إعادة نحت الحجر بحيث يشبه إمبراطورًا جديدًا. وفى بعض الأحيان كان الحاكم الجديد يمثل تحسنا عن القديم: وعلى سبيل المثال، تحول الإمبراطور المستبد دوميتيان على النقوش إلى نيرفا الذى تخلى عن أساليب سلفه. ولكن الأرجح فى كثير من الأحيان أن يكون العكس هو الصحيح: فقد قتل الإمبراطور كركلا المتحجر القلب شقيقه جيتا، ثم أعلن إدانة ذكراه، وأمر بمحو نقوش وصور جيتا من جميع أنحاء الإمبراطورية. وربما كان من الأفضل أن يتجنب شعب شعب مصر هذا النسيان ويسمح له بالاحتفاظ ببعض الذكريات عن رئيسه السابق. فمحو جرائم الماضى، لا يساعدنا على تفاديها فى المستقبل.