ينتهي العصف.. وتدرك الأسماع أن شيئا لم يعد يمنع الأجساد من أن تشرع في الخروج من الجحور, لتتنسم الأمان بعد طول اشتياق إليه, فتتلصص الآذان لتسترق السمع من وراء الجدران لعلها تسمع شيئا قد يعكر صفو ما هي مقدمة عليه الخروج مرة أخري إلي رحاب المدينة التي اكتوت لتوها, وتجرعت من الدمار جرعات وجرعات!! وتهم الأقدام بالتحرك, خطوة تلو خطوة نحو طاقة الخروج يحركها حذر شديد, ملؤه الأمل المفعم بالشوق إلي الضياء!! وتطل الأبصار خلسة من طرف خفي لعلها تلمح شيئا غريبا في الخارج يثنيها فلا تجد!! فيهرول الجسد نحو الدلوف إلي ما وراء الجدران الموحشة مغادرا مغامرا!! وتتنفس الأنوف الصعداء فرحة بوهج الضياء ما إن تلمح المدينة.. ولكن المدينة نفسها لم تعد كما كانت من ذي قبل!! فلقد بدت ملامحها مختلفة; فالبيوتات العتيقة قد تهدمت عن بكرة أبيها( بدون قصف), يشهد عليها ركام أحجار هنا وهناك, وبقايا شواهد أعمدة خرسانية متهالكة,لفظت أسياخ الحديد خارجها في تكوينات عشوائية للغاية, وكأنها أقطاب مغناطيس متشابهة تنافرت بعد طول محاولة للاندماج والتعايش فما عادت تقوي علي ذلك بعد العصف!! وعلي قارعة الطريق, فردة حذاء شاردة مشوهة سقطت من قدم صاحبها, ربما وهو يهرول خائفا من شيء ما, أو ربما من شرفة أحد المنازل, ودمية خرجت أحشاؤها القطنية متسخة دون أن يوجه إليها أحد طلقة رصاص واحدة, ولكن لأنها تحاكي البشر في أساس فكرتها, فقد كان لزاما أن يسري عليها ما يسري علي بقية البشر في ذات المدينة التي يقطنها الإنسان والحيوان علي قدم سواء, وكثير من دمي جمعت بين الإنسان الحيوان في كائن خرافي واحد لا سلالة له ولا نسل, وبقايا ملابس متهالكة, لا يعرف أحد تحديدا ما إذا كان تهالكها قد نجم عما حدث, أم أنها كانت متهالكة في الأصل علي أجساد من كان يرتديها؟ وبقايا طعام تعفنت أوصاله, فلم يعد طعاما يذكر لإنسان, وإنما لكائنات أخر أصبح من حقها أيضا في هذه الأجواء فقط أن تأكل ربما كانت أنواع من فطريات, أو بكتيريا, أو حشرات, أو ربما حيوان لم يجد ما يسد رمق جوعه, من بعد أن هوت أركان المدينة بأسرها من حوله فدفعه الجوع إلي التجاسر علي سليم فطرته!! أجواء المدينة يكتنفها عبق رائحة نفاذة, ربما رائحة بقايا دخان نيران( لم تشتعل بعد) فعليا, وربما رائحة انبعثت من جوف أكوام قمامة كثيرة عشوائية المحتوي, تقيأتها المدينة علي الطرقات مع تقادم الزمن, وغبار أتربة عالقة في الهواء تتصيد خيوط أشعة الشمس الهابطة من كبد السماء صيدا, فتفضح بعض مساراتها وهي تشق طريقها بالكاد أملا في أن تلامس أسفلت المدينة لعلها ترتد مرة أخري إلي حيث منبتها قرص الشمس!! وترسم الشمس بفرشاة الضياء خطوطا مائلة كثيرة علي مرمي البصر, تقسم مشهد المدينة إلي شرائح!! يا إلهي, المدينة شرائح, وكل من بداخلها شرائح تكاد أشعة الشمس تقارب بينها وإلا تبعثر عموم المشهد وتبعثرت معه المدينة بأسرها في الفضاء!! وتسير قدماي في جوف تلك اللوحة الباهتة وسط أقدام كثيرة خرجت لتوها هي الأخري لتتحسس الطريق, تلاقت جميعها من أجل غد أفضل!! وعلي مرمي البصر, تسمع آذاننا صوتا قادما من بعيد يوحي بأن مجموعة من بشر تغني من خلف الأطلال, فتنطلق الأقدام مسرعة علي هدي ما تسمع, تجاهد كل الجهد من أجل أن تتبين ما يقال: ( اسأليني يا حبيبتي ع اللي داير في البلاد اللي فيها صادروا حلمي وباعوا صوتي في المزاد اسأليني عن ولاد شوفتهم بعنيا دول جربوا كل الحلول وبيفشلوا بالاجتهاد أحكي ليكي ألف قصة من حكاوي التعبانين اللي عايش نص ميت واللي ميت من سنين.. اللي نص كلامه كحه.. واللي شاف خماره راحها واللي أكل العيش بقي بحه دايره دور ع السكرانين فيها ثروة من فلوس تعمل جبال اسأليني عن كباري نايمة تحتيها العيال..) فيهمس في الآذان من يؤكد أن من سطر كلمات هذه الأغنية هو فريق مغمور من شباب اسمه فريق( بلاك تيما), غناها قبل العصف ولم يستمع إليه أحد في سكرات الحصان والأسرة الكثيرة( جمع سرير) التي امتلأت بها الأغنيات,( تتلوي) عليها شهيرات الغناء وأخريات في( البانيوهات)!! ثم تمضي بنا الأقدام سائرة, ويتباعد صوت هؤلاء, فتلمح الأعين شابا آخر وقف يغني عن بعد وسط الركام, تنطلق من قسمات وجهه معاني الصدق المفعم بالأمل و يدعي حمزة نمرة: (يا ما نفسي أعيش إنسان قلبه علي كفه كل اللي بردانين في كفوفه يدفوا يضحك يضحك خلق الله يفرح يفرح كله معاه إنسان جواك وجوايا إنسان له حلم له غايه..) نعم,لم تعد تغنينا كثرتنا أو أشعة الشمس( الزائفة) من حولنا عن شعور قوي بالبرودة يتملكنا, ونحن الذين نتوق شوقا إلي بصيص ضحك يضحكنا حتي ولو بالعدوي والإيحاء; يضحك أحدنا فنضحك ونضحك ونضحك من دون حتي أن نعرف لذلك سببا, بل ولا نريد أن نعرف السبب!! كفانا حدادا علي الماضي, كفانا نبشا في القبور, كفانا انتقاما من مستقبل أبنائك وأبنائي بسلاح ما قد كان, كفانا تقعيرا لأيامنا( المعدودة) في الحياة, وكفانا ارتداء بالزيف لأثواب الحماسة والوطنية والعبقرية والمفهومية.. دعونا ننفض الغبار من فوق رءوسنا وملابسنا ومن الطرقات!! دعونا( نسلت) أيادينا من براثن ما يحاك لنا في ظلام ما لا نعمله أو ما( نشتم رائحته) ولا نعمله, دعونا نفتح بمفتاح صدق نافذة رحمة وتراحم تجاه بعضنا بعضا, تجاه محتاج حقيقي فينا أبت عيناه أن تذرف دمعة السؤال, تجاه حسرة أب ما عاد يقوي علي ستر ابنته أو إكرام وجهها في أعين الآخرين, تجاه طفل من حقه علينا ألا نسلبه رغبة بريئة في الجري واللهو بيننا بأمان, تجاه أم عجزت يداها عن أي شيء تقدمه سوي الدعاء, تجاه شاب تثاقلت خطواته في شوارع بلاده تسولا لحقه الطبيعي في الحياة.. دعونا نلوذ بسجود خشوع ودعوات مستمطرة للرحمات بألا تتحول شوارع هذه المدينة إلي ساحات تنازع واقتتال!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم