لاتحظي الأماكن بالقداسة والرمزية في حد ذاتها ولكن يتفق الناس في أي زمان, حول اعتبار أماكن معينة م قدسة ورمزية, ينبغي احترامها ولايجوز التعدي عليها, وينشأ هذا الاتفاق نظرا لارتباط هذه الأماكن بقيم دينية أوعقائدية أونظرا لارتباطها بأحداث تاريخية اسهمت في فتح الطريق لكتابة حلقة جديدة في تاريخ الإنسانية أو في تاريخ بلد معين. ولاشك ان المسافة بين التحرير وماسبيرو صغيرة من منظور قياس المسافات, فالمكانان متجاوران ولايفصل بينهما سوي بضع عشرات من الأمتار, بيد ان هذه المسافة من منظور مسار ثورة25 يناير بل وربما مصيرها, تبدو طويلة, وعميقة وتحفل فضلا عن ذلك بالعديد من الدلالات وتموج بشحنات كبيرة من الأمل والرجاء وخيبة الأمل والإحباط. ففي الوقت الذي جسد فيه ميدان التحرير توق المصريين الي الحرية والكرامة والانعتاق من قيود النظام القديم والتطلع الي تحقيق المواطنة والمساواة الكاملة بين المصريين, وبعث الي حيز الوجود انبل مافي ثقافة المصريين من تقاليد وموروث, ابرزت احداث ماسبيرو مظاهر الفرقة والطائفية والعنف غير المبرر وغياب النظام والدولة او علي الاقل حضور الدولة بطريقة فاقمت العنف والفوضي بدلا من ان تضع حدا لهما. من التحرير الي ماسبيرو هي المسافة التي تفصل بين نجاح الثورة في خلع النظام القديم ورموزه وشل اجهزته الأمنية في مواجهة الاعداد الغفيرة من الثوار, وبين فشل ادارة المرحلة الانتقالية في تحقيق المساواة والمواطنة وسلمية التظاهر والتعبير عن الحقوق بعد ثمانية اشهر من المرحلة الاولي لنجاح الثورة, وفي حين ان التحرير مثل وبوضوح انقطاعا في آليات عمل النظام القديم, واثبت عدم جدواها في حمل الثوار علي التنازل والرضا بالقليل, اي مادون اسقاط النظام, شهد ماسبيرو إعادة إحياء آليات النظام القديم واعادة بعث انماط تفكير النظام القديم وآليات تبرير الاخطاء, في كل مرة يتم الدعوة الي مليونيات في ميدان التحرير كان المجلس العسكري يصدر بيانا ضمن سلسلة البيانات التي يصدرها تباعا منذ توليه ادارة البلاد, مضمونه ان مهمة تأمين المتظاهرين تقع علي عاتق اصحاب الدعوة للتظاهر من القوي السياسية المختلفة, وان اي مساس بالمنشآت الحيوية سيواجه بكل حسم, الا هذه المرة برغم علم جميع السلطات وكل الدوائر بالتظاهرة السلمية التي سوف تنطلق من شبرا في اتجاه ماسبيرو. في الوقت الذي دشن فيه ميدان التحرير بدء ثورة المصريين السلمية البيضاء البعيدة عن العنف, ثورة كل المصريين مسلمين ومسيحيين, دشن فيه ماسبيرو آليات الشحن الطائفي والعنف الموجه الي صدور شباب الاقباط وبعض عناصر القوات المسلحة, في التحرير كان المتظاهرون يهتفون الجيش والشعب يد واحدة, امافي ماسبيرو فكان من الصعب ان يجد هذا الشعار له مكانا في تلك المواجهة المفجعة التي ادمت قلوب المصريين. في التحرير كان الوضوح سيد الموقف, وضوح الرؤية والهدف والفاعلين, اما في ماسبيرو فأصبح الغموض سيد الموقف, فالفاعلون مجهولون حتي الآن, الفاعلون هم القلة المندسة وهم اصحاب الايدي الخفية والعابثة هم البلطجية.. الخ. هذه الاوصاف والاشارات التي تصدر وصدرت في مثل هذه المواقف للتبرير والتعمية, حيث لم يكشف احد عن هوية الفاعلين المندسين, وتلك الايدي الخفية وهؤلاء البلطجية الذين يظهرون ويختفون كأنهم من عالم الجن والعفاريت وكأنهم كائنات تعلو فوق القبض والإحضار والاتهام. ادخل التحرير اقصد الميدان البهجة والثقة والامل في نفوس جميع المصريين, اعاد لهم الثقة في انفسهم وذواتهم فرادي وجماعات,واعطي المصريين ما يستحقونه من احساس بالكرامة والاعتزاز,وبقدرتهم علي تحقيق مايصبون اليه, أما ماسبيرو فقد خلف لدي المصريين كافة خيبة امل واحباط, وأوجد في نفوسهم ووجدانهم جروحا عميقة قد لاتلتئم قريبا الا اذا صدقت النوايا في معالجة اسباب الاحتقان ومصادره علي ضوء استلهام روح ثورة25 يناير وميراث المصريين الحضاري والروحي. نعم لن نستطيع تجاوز محنة ماسبيرو الا اذا تفحصنا جذورها في الواقع وقمنا بتشخيص شامل وعلاج حقيقي لموطن الداء.ونقطة البدء في مثل هذا العلاج الشامل هي ان يصارح المسئولون انفسهم بأنهم لايمكنهم معالجة المشكلة الطائفية والاحتقان الطائفي بنفس التفكير الذي افضي الي وجود هذه المشكلة, وينطبق هذا الامر علي جميع المشكلات والتحديات التي تواجه مصر مابعد الثورة علي مختلف الاصعدة, والحال انه لابد من الانقطاع عن التفكير والروح التي تسببت في هذه المشكلات وفاقمتها. اولي الخطوات في هذا الصدد اي معالجة المشكلة الطائفية هي اقرار حقوق المواطنة ليس فقط دستوريا وقانونيا ولكن أيضا واقعيا وفعليا, اي لايكفي النص علي حقوق المواطنين المصريين مسلمين ومسيحيين في التمتع بجميع حقوقهم السياسية والمدنية والقانونية, ولكن ان يجد ذلك ترجمة عملية وامينة في الواقع, والطريق الي ذلك هو تحقيق حلم الدولة المدنية التي تكفل هذه الحقوق وتسهر علي رعايتها وتحتفظ بمسافة متساوية من كل الاديان والملل وتحمي حقوق العبادة والعقيدة ودور العبادة وتنظم كيفية انشائها وترخيصها علي قدم المساواة للمسلمين أو للمسيحيين. أما ثانية هذه الخطوات فهي تعليمية ثقافية, واقصد بذلك ان يكون تاريخ المسيحيين جزءا لايتجزأ من تاريخنا نحن المصريين وان يعرف اطفالنا منذ نعومة اظفارهم تاريخ المسيحية في مصر وعصر الشهداء وتاريخ الكنيسة الارثوذكسية المصرية ومواجهتها للامبراطورية الرومانية وذلك جنبا الي جنب مع دخول الاسلام الي مصر. أما ثالثة هذه الخطوات فتتمثل في ابراز الرمزية الدينية المسيحية جنبا الي جنب مع الرمزية الدينية الاسلامية في مختلف وسائل الاعلام المكتوب والمرئي بهدف كسر الهوة التي تفصل بين هاتين الرمزيتين وتحقيق الالفة المطلوبة كركيزة للمساواة والمواطنة الكاملة. من شأن تطبيق هذه الخطوات ان تكمل إحداها الأخري, وان يلتقي السياسي بالثقافي والتاريخي, وان يتآلف الماضي مع الحاضر, ذلكم هو الطريق الي الوحدة الوطنية الحقيقية والتخلص من ميراث الفتنة الطائفية والاتجاه صوب المستقبل. المزيد من مقالات د. عبد العليم محمد