مكونات الكيان المصري طبيعية وجغرافية وتاريخية واجتماعية, هي التي حددت خصائص الحقيقة المصرية: وحدة المصريين واستقرار مجتمعهم واستمرار حضورهم في التاريخ الإنساني, وهي التي صبت في النهضة الحديثة. لم تغب مصر عن التاريخ منذ فجره الباكر حتي في أزمنة التراجع. ثلاث مراحل أولاها وأطولها وأخلدها الأولي وآخرها وأخطرها الثالثة الراهنة: صعود وخمود ونهوض. ولقد بدأت النهضة بتنبه أولي لثبات الكيان المصري الذي لم يشهد في كل تاريخه حركة إنفصالية واحدة ولوحدة المصريين التي لم تشهد في كل تاريخها حربا أهلية واحدة. بدا هذا التنبه قبيل النهوض عندما كان رؤساء الحرف والوجهاء والعلماء يتقدمون باسم الجماعة والجمهور والعموم إلي الوالي العثماني بمطلب إقامة العدل, القيمة المصرية العتيقة المتواترة إلي يوم الناس هذا, وعندما نضج مفهوم المواطنة عند الطهطاوي لما دعا إلي أن يكون الوطن محلا للسعادة بيننا والضمير هنا نحن المصريين,وعندما سطع هذا المفهوم عند عرابي (ولدتنا أمهاتنا أحرارا) فالضمير هنا نحن المصريين. واحتوي مفهوم المواطنة علي تأصيله النظري في (المؤتمر المصري:1911) ثم نضج بمحتواه الحديث في ثورة 1919, الدين لله والوطن للجميع. وتبدي المفهوم برسوخ نهائي في صيغته الدستورية (1923) وملحقاته من الصيغ القانونية حتي صارت المواطنة, وحدة الجماعة, الحقيقة الأولي الطبيعية الدستورية في الكيان المصري الحديث. لكن الحكم المطلق في العقود الأخيرة نقيض التحديث لأنه يفتت الوحدة باحتكاره الشأن كله وحرمان من عداه, إلا من والاه, من المشاركة في إدارة الوطن. وبدهي أن ينتهي حكم الفرد المطلق ومن يلوذ به إلي احتكار ثروة البلاد والي شيوع الفساد وترسيخ النفي المتبادل بين قوي الجماعة والي الفتن الاجتماعية والطائفية. إنه نقيض المكون المصري الأول (الوحدة) وهو نقيض المكونين الآخرين( الاستقرار والاستمرار). إن نظام حكم الفرد المطلق نقيض مكونات المجتمع المصري, نقيض النهضة المصرية الحديثة. المشترك الوطني هو جامع المكونات التاريخية والاجتماعية الخالقة لوحدة الجماعة. هذا المشترك هو قاعدة الوحدة وضامن صحتها وسلامتها وتواصلها في التطور الإنساني العام. إنه حاصل تفاعل وليس حاصل جمع. والمجتمع المصري نموذج فذ في هذا الأمر, قديم حكيم, أثمر تفاعل مكوناته مشتركا مجتمعيا علي غير مثال, لكن هذا المشترك الجامع قد أصابه وهن عطل إبداعه الحضاري, فلما كان النهوض الحديث, استأنفت إمكاناته الإبداعية القوي الأربع الأساسية/الليبرالية والاشتراكية والمحافظة والقومية/التي حملت رايات تحرير الوطن وتحديث المجتمع. وكانت العثرة الثانية المعطلة في العقود الأخيرة لما تمكن الحكم الشمولي المطلق من احتكار إدارة شئون البلاد: لقد هدد هذا الاحتكار المكونات, الوحدة والاستقرار والاستمرار فأثمر الفساد. وبدد قوي التحديث بالمنع والحظر والإنهاك والإفساد. عاد هذا الحكم بالبلاد إلي ما قبل نهضتها واستدعي من عصور الخمود والجمود كل الآليات والأداءات المنتجة للعقم والتراجع الحضاري, واعتمد علي بيروقراطية عجوز عاجزة وأمنية مستبدة باطشة فسد الآفاق أمام العقلانية والإبداعية والعدالة. لذلك كله رفعت ثورة يناير القائمة الدائمة لواء (الشعب يريد) فكانت العبارة إحياء لمكونات الوحدة العتيقة المتواصلة وانعكاسا للقوي الأربع الحديثة. وأكملت العبارة علي بساطتها الشعار الخالد الذي صاغته النهضة منذ ما يقرب من مائة عام وأتمت هذه الصياغة بالإضافة العصرية المرموقة فصار علي هذا النحو المعجز: الدين لله والوطن للجميع والحكم للشعب. وإنما تمكنت الثورة من العلو إلي هذا الأفق, بثلاثة أمور مشهودة مرصودة. الأول الوعي أن البديل التاريخي لنظام الحكم المطلق في الواقع المصري الراهن هو نظام الجبهة الديمقراطية المتحدة الذي ينهض علي المشترك الوطني ويتسع للقوي الأساسية التي رشحها التاريخ المصري الحديث والمعاصر. لذلك استلهم ثوار يناير دروس النضال المصري فتجاوزوا نهج التناحر الذي أثمرته ظروف منازلة الاستبداد الخارجي ومواجهة الاستبداد الداخلي وبدأت منظماتهم الديمقراطية المستقلة في السنوات العشر الأخيرة بنهج التحاور فأقاموا الائتلافات والتحالفات وشرعوا في بناء تنظيمي أوسع, بناء الجبهة. والأمر الثاني هو الالتزام الحازم بالمكون المصري الحضاري (الاستقرار المستمر) فكانت صيغة (سلمية سلمية) تعبيرا عن نهج التطور الديمقراطي السلمي. وأما الأمر الثالث فهو اتصال ثوار يناير الحميم بتقنيات الاتصال والتوصيل التي أثمرتها ولا تزال ثورة العلم وتطبيقاته. ولقد توسل الثوار بكل هذا المنجز في التنظيم والتوجيه والحشد فكانت الملايين التي ملأت الساحات والميادين في كل أرجاء مصر. لقد أسست ثورة يناير رؤاها وحركتها علي المشترك الوطني فبان الطريق إلي مجتمع التوافق المنتج والحكم الرشيد العادل كما بانت الطرائق القويمة لاستكمال مهام النهضة. البداية سديدة والطريق شاق طويل, ولكن الذي يقرب المسافات والغايات أن مصر الحديثة قد تراكم لديها منذ فجر القرن التاسع عشر, تراث من خبرات بناء المؤسسات ومن الإبداعات الفكرية والصياغات الدستورية والقانونية والقدرات المدربة والكوادر المتخصصة مما يجعل شأن اليوم لا يبدأ من فراغ. إنما العثرة الهيكلية التي شهدتها البلاد في العقود الأخيرة كانت عندما استل الحكم المطلق من ذلك التراث المتراكم أشكاله وملأها بسياسات وأداءات ترتد إلي قرون ما قبل النهضة, فظلت المؤسسات العصرية ماثلة غير أنها خاوية, أشكالها قائمة ووظائفها غائبة. والمشهد المؤسسي في بلادنا في العقود الأخيرة أن الحكم المطلق لم يخرب المؤسسات الرسمية فقط وإنما قضي علي المؤسسات المدنية المستقلة فحرم البلاد من نشاط أهلها وعاد بهم إلي ما يشبه الحياة البدائية. لهذا بدأت ثورة يناير خطوتها الأولي بمؤسسات الحكم, لأن القيادة للسياسة, فالحكم الرشيد قاطرة المجتمع الجديد. توجهت حركة الثورة إلي أهمية صياغة دستور عصري توافقي, ينص علي الواجبات ويحمي الحقوق والحريات ويقيم ميزان العدل في توزيع الثروة ويعين في حل التناقضات بالطرائق العقلانية والحركة المتوازنة السلمية ويدفع بالدور المصري الحضاري إقليميا وعالميا. وينهض علي هذه الخطوة التأسيسية خطوات لازمة: الانتخابات البرلمانية والرئاسية وانتخابات المحليات والنقابات وتحرير الجمعيات الأهلية واستقلال الجامعات والقضاء واتحادات الفلاحين والعمال والطلبة. ولا ريب في أن نهج التأسيس علي المشترك الوطني سيجعل من كل ذلك قاعدة لمجتمع التوافق الديمقراطي المنتج. المزيد من مقالات عبد المنعم تليمة