لم أكد أفتح باب غرفته في العناية المركزة حتي فوجئت بما لم أتوقعه.. فقد كان هناك شخص آخر غير أنيس منصور الذي أعرفه, وبرغم أنه كان جالسا ووجهه الذي تضاءل إلي نصفه لايظهر منه سوي العينين فقد مد لي يده يريد أن يتكلم ولم يستطع, ومددت له يدي أريد أن اصافحه ولم أستطع.. وافترقنا هو إلي موعده المحدد وأنا إلي موعدي المؤجل الذي لايعلمه سوي الذي خلقنا جميعا. مات أنيس منصور.. مات الأسطورة في الكتابة الرشيقة وبحر المعرفة الواسعة في الأدب والثقافة والسياسة والفن والدين والرحلات والوجودية والفلك والعلوم وملك, الحكايات التي لاتمل منها ولايفرغ كيسه منها. عرفت أنيس منصور في بداية مشواري الصحفي في أخبار اليوم عام3591, وأحببت فيه من أول لحظة تواضعه واقباله علينا نحن التلامذة الذين دخلوا مدرسة المهنة, خاصة الذين يقع عليه اختياره ويستريح إليهم, وقد كان من حظي انني كنت أحدهم.. وبعد ذلك شاء قدري أن أخلفه في رئاسة المجلة العظيمة( أكتوبر) التي بناها طوبة طوبة وجعل منها في شهور قليلة مطبوعة ينتظرها آلاف القراء, وكان امتحانا بالغ الصعوبة للتلميذ الذي كان يجري وراء أستاذ من أساتذته أن يحافظ علي النجاح الذي حققه الاستاذ, واقتربت من أنيس وزاملته أكثر في الأهرام, وفي كل لقاء معه كنت أجد فيه اضافة أسعدني أن اغترف منها المزيد.. وهذا سر غريب في شخصية أنيس الذي لم أجد شخصا يعكس اسمه مثله فهو في لقاءاته وجلساته أنيسا جميلا بليغا عالما تجد عنده دوما الجديد سواء في حكاياته عن نفسه أو الآخرين. ورغم هذه البساطة في قربه من الآخرين فقد كان في حياته تركيبة خاصة لايأكل اللحوم ويعشق الشاي بالعسل, وقد فضح شركة مصر للطيران لانها توفر الشاي علي رحلاتها ولاتوفر العسل.. وأهم من ذلك أنه كان لايعرف النوم إلا قليلا, وإنه كما يقول لنا: كثيرا يتغطي في عز الحر بالبطاطين ومرة لم يجد لحافا أو بطانية فرفع مرتبة السرير ونام تحتها! ويحكي لنا فيقول أنه مرة في الفلبين صحا فوجد الشمس قد ملأت الغرفة فأدهشه ذلك, فهو كما يؤكد لم ير شروق الشمس من عشرات السنين لانه يصحو قبل الفجر لكي يقرأ ويكتب في غرفة مغلقة الباب والشباك. ولذلك كان أنيس يبدو طوال النهار كأنه فاضي للكلام وللقاءات والاتصال بزوجته في الوقت الذي يرفع فيه سماعة التليفون ويغلقها لانه لم يعجبه صوت المتحدث. وكأنه لايعمل بالقراءة أو كتابة رفوف كتبه العديدة التي تزيد علي مائتي كتاب لاتعرف ماذا تختار منها وهل مع العقاد أو مع السادات أو بلاد الله خلق الله أو الكبار يضحكون والذين عادوا من السماء وأرواح وأشباح ومذكرات شاب غاضب ووداعا أيها الملل ووجع في قلب إسرائيل.. وهكذا. ولم أعجب لزوج في حياتي مثل أنيس منصور الذي كان له معلقة كل يوم جمعة في التحريض علي الزوجات وعلي عدم الزواج في الوقت الذي كان أنيس من المتيمين بزوجته أعانها الله بعد رحيله وإلي درجة أنه كان يتصل بها في اليوم الواحد نحو عشرين مرة.. وعندما مرضت هي قبل أكثر من عشر سنوات أصابه الاكتئاب وأحس بأنه أصبح عاجزا إلا عن الكتابة التي كانت أكسجين حياته.. ولكنه استطاع ان يعود نفسه بعد ذلك علي حب الزوجة التي لايريد منها سوي حبه والجلوس أمامها ربما صامتا أو متحدثا, وكما كتب هو مرة: ماذا قالت أمس وأول من أمس, وما قالته قبل ذلك بشهور.. انه نفس الكلام.. انا أقول وهي ترد. واعرف مقدما ما سوف تقوله.. لا هي زهقت ولا أنا مللت ولكننا لا نتقدم مع ذلك تجد ان مساحة تحريضه الآخرين ضد الزواج أصبحت أكثر وكأنه كان يخشي علي حياته الزوجية الخاصة من الحسد! ولم يكن أنيس يكتب مقالاته التي نشرتها له الاهرام وجريدة الشرق الاوسط أخيرا وظلت تظهر وهو راقد في العناية المركزية لايستطيع الكتابة أو الاملاء, وإنما كانت هذه المقالات رصيدا كتبه وهو قادر علي الكتابة فقد كان من عادته أن يكتب كلما جاءته فكرة بصرف النظر عن موعد النشر, وقد وصف ذلك بقوله: ليس من الضروري إذا جلست إلي الكتابة أن أجد بسهولة ما أكتبه, وعندما تتعذر الكتابة فإنني أفضل ان أقرأ في أي موضوع.. وفجأة أجدني أكتب موضوعا آخر غير الذي كان في نيتي ان أكتبه, وأعتقد أن التفكير كيمياء.. اضافة عناصر إلي أحماض إلي سوائل وهزها معا ليكون مهنا سائل جديد أو مادة جديدة. ولكي تنجح هذه العملية الكيمائية لابد أن تتحقق شروط التفاعل وفقا لمعادلة دقيقة وهي معادلة لا أعرفها بالضبط ولكن بالتجربة اليومية أحسها وأحاول أن اكون دقيقا. فاليقظة في ساعة معينة..وتناول الشاي أو صنعه ووضعه أمامي دون أن أنتبه اليه, ونوع الورق والحبر والاضاءة ودرجة حرارة الغرفة. انني أقوم بعمليات تكييف للهواء والماء والضوء والمزاج والتسخين, وأنتظر وانتظر طويلا.. وقد أكون هادئا.. وقد أكون غاضبا ولكنني دائما احني رأسي للذي يجيء ويتوارد.. ولايزال المثل الأعلي لكل مفكر ما قاله فيلسوف الوجودية الالمانية مارتن هيدجر: انني أجلس خاشعا حافي الرأس أمام سيدتي وأنتظر ما تجود به علي.. وقد تفضلت معبودتي وقالت والذي قالته ليس كثيرا ولكني أكن لها عظيم الاحترام.. والامتنان أما معبودته ومعبودتي فهي الحقيقة. انتهي ما نقلته مما كتبه أنيس, وهذا الذي كتبه وهو كثير هو الذي بقي لنا.. ففي حياته كان أنيسا جميلا بلسانه وحكاياته وكانت لنا معه بشخصه أيام وحكايات, وبعد رحيله أصبح أنيسا بكتبه ومؤلفاته ومع الآلاف الذين سيقراونها ستكون لهم أرشق الايام والحكايات. المزيد من مقالات صلاح منتصر