كتبت -سجيني دولرماني: وصفته مجلة الايكونومست بالساحر, ووضعه مايكل بلومبرج عمدة نيويورك في مصاف العباقرة مثل توماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي وألبرت أينشتاين صاحب نظرية النسبية. واعترف منافسوه بأنه أحدث انعطافة حاسمة في ثورة المعلوماتية والاتصالات المعاصرة وعالم الترفيه الرقمي تماثل تلك التي أحدثها هنري فورد وجون روكفلر في صناعتي السيارات والبترول. الساحر هو ستيف جوبز الذي رحل عن العالم بعد مرض طويل في الخامس من أكتوبر الماضي عن56 عاما تاركا وراءه حشدا من الأصدقاء الذين تعارفوا من خلال ابتكاراته الآي بود المخزن الذكي وأي فون الهاتف الذكي وآي باد الدفتر الذكي, وشركة تفاحة آبل التي كان أحد مؤسسيها ورفع قيمتها السوقية إلي مصاف شركة أكسون موبيل البترولية بقيمة تصل إلي75 مليار دولار من التدفقات النقدية الصافية, في حين تقدر ثروته الشخصية بنحو8.3 مليار دولار ليحتل المقعد رقم109 في قائمة فوربس لأكثر مليارات العالم ثراءا. لم يكن مهندسا مخترعا, ولكن عبقريته كانت في امتلاكه رؤية استراتيجية ثاقبة جعلته يتوقع ما سيحتاجه البشر من خدمات في المستقبل والعمل علي خلق هذه الابتكارات الجديدة التي تجعل حياة البشر وقدرتهم علي التواصل والاتصال أكثر سهولة ومتعة. ميزته عن أقرانه أنه وضع اهتمامات الفرد فوق اعتبارات الربحية لشركته. لم يأت جوبز بجديد, ولم يحقق اختراقا تكنولوجيا في الصناعة الاليكترونية, لكنه أجاد في نسج ضفائر العلاقة بين معطيات التقنية الاليكترونية, وتصميم منتجات تخدم الحياة اليومية للبشر, سهلة الاستعمال لا تثقل عليهم بفرض اكتسابهم لمهارات عالية قبل التمكن من استخدامها بصورة يومية متكررة, وفي هذا السياق أحدث تحولات في أجهزة الحاسب, واستخدامات الفأر, وتطوير النوتة الموسيقية الكترونيا, ووسائل الاتصال وعالم الأخبار والإعلام بطريقة جعلت منافسيه يلهثون ويتألمون من إنجازاته ومن قدرته علي إمتاع المستهلكين لأدواته. الكثيرون أيضا وصفوه بالثعلب الماكر بسبب قدرته السحرية علي عرض منتجاته وخبراته التسويقية وقدرته علي إقناع من حوله بأن حياته ستكون فقيرة دون التمتع بمنتجاته, وهي ميزة ستفتقدها كثيرا شركة آبل بعد رحيله. المقربون الذين عملوا معه يتذكرون أيضا امكاناته الإدارية العالية, وقدرته علي جذب النابغين إلي شركته, وتشجيعهم, وقسوته في التعامل معهم, وحرصه علي أن تكون له كلمة أخيرة في شكل المنتج ولونه وأدق التفاصيل, وتفانيه في العمل بلا حدود. وهو ما خلق حلقة من الولاء بينه وبين العاملين معه والجمهور العريض الذي يستخدم منتجاته. بداية صعبة كل من يتصور أن مسيرة حياته كانت سهلة وميسرة عليه أن يتابع جيدا بدايته الصعبة والتحديات والاخفاقات التي واجهها في حياته. فقد ولد في لوس ألتوس بولاية كاليفورنيا عام1955 عن أب سوري الأصل وأم ألمانية الأصل تركاه لتتبناه أسرة أرمنية حرصت علي تعليمه, لكنه لم يكن شغوفا بالدراسات التقليدية بجامعة أوريجون, واختار تعلم مقررات للكمبيوتر دفع نفقاتها ببيع زجاجات المياه الغازية الفارغة بعد أن رفضت أسرته تمويل دراسته. ثم توجه إلي وادي سليكون في كاليفورنيا حيث عمل في مجال تصميم الألعاب الكمبيوترية. وقبل أن يؤسس شركة آبل في عام1976 مع أستاذه ستيف ووزنياك كان قد قضي سنوات يعيش حياة الهيبيز وسافر إلي الهند ليرتشف من تعاليم البوذية والهندوسية التي جعلته يتحرر من أفكاره الغربية. البداية كانت تصميم أول كمبيوتر شخصي آبل1 في جراج صديقه ثم آبل2 عام1977 التي حققت للشركة إيرادات كبيرة. وبحلول عام1980 وكان عمره لا يتجاوز ال25 عاما كانت شركته التي تميزت عن منافستها ميكروسوفت بأنها شركة معدات وبرامج تشغيل وبرامج خدمية قد اصبحت رائدة في مجال الشركات الجديدة في عالم الكمبيوتر الشخصي. ثم جاءت الضربة الكبري بابتكار ميكروسوفت لنظام التشغيل ويندوز التي اكتسحت بها السوق. في هذه الفترة استعان جوبز بصديقه جون سكالي رئيس شركة بيبسي كولا لخبراته التسويقية. وحقق الصديقان نجاحا باهرا باطلاق آبل ماكنتوش عام1984 التي حررت مستخدمي الكمبيوتر من احتكار شركة ميكروسوفت. لكن سرعان ما اختلف الصديقان بسبب أسلوب عمل جوبز التحكمي ومع تصاعد المنافسة وتراجع إنجازات آبل اضطر جوبز إلي الاستقالة من الرئاسة المشتركة للشركة في عام1986 وهو في الثلاثين من عمره. نجاحه في العقد التالي جاء من مصدر غير متوقع. فقد اشتري شركة بيكسار واطلق أفلام الكارتون المؤلفة علي الكمبويتر ليدخل بها عالم الترفيه الرقمي وحقق نجاحا هائلا بداية من حكاية لعبة الذي نال عنه أوسكارا لأفلام الأطفال. بعدها دخل عالم الأفلام الثلاثية الأبعاد التي انتقلت من عالم الرسوم المتحركة لتصل إلي الأفلام الكاروائية مثل فيلم أفاتار واشترت ولت ديزني شركته لكنها احتفظت به كأكبر مساهم فردي في الشركة هو ما يفسر جزءا كبيرا من ثروته واحتفاظه بآخر المناصب قبل وفاته باعتباره مسئولا تنفيذيا في الشركة. الخطوة التالية كانت تأسيسه شركة نيكست للبرمجيات التي جذبت انتباه شركة آبل وكانت سببا لعودته إلي الشركة التي شارك في تأسيسها كمستشار خاص ثم مديرا تنفيذيا مؤقتا لها في عام.1997 وهنا بدأت الفترة الذهبية في حياته حيث توالت المنتجات والتطبيقات الفريدة للتكنولوجيا الرقمية مثل آي ماك عام1998 وآي بود2001 وآي تيونز2003 الذي أحدث ثورة في عالم الموسيقي الرقمية بسماحه بتنزيل الأغاني بطريقة قانونية وكان إيذانا بأفول نجم الأقراص المدمجة. وبعد هدوء دام عدة سنوات عاد جوبز بمنتجات ثورية جديدة مثل هاتف آي فون الذي نافس بلاكبيري وفي العام الماضي طرح آي باد الكمبيوتر اللوحي الذي يجمع بين مميزات الكومبيوتر والهاتف الخلوي. خلال هذه الفترة أصيب جوبز بمرض سرطان البنكرياس وهو ما دفعه إلي التخلي عن مسئوليات الرئيس التنفيذي للشركة في أغسطس الماضي واشتد عليه المرض حتي وفاته في الخامس من أكتوبر2011, وبعد رحيله بأيام أطلقت الشركة منتجا جديدا هو آي فون4إس التفاحة بعد جوبز سؤال منطقي يطرحه الجميع: ما هو مصير شركة آبل بعد رحيل الأب الروحي؟ لا أحد يمكنه الإجابة علي هذا السؤال. فالمؤكد أن الفجوة ستضيق بينها وبين أقرب منافسيها ليس بسبب رحيله ولكن بسبب طبيعة قطاع التكنولوجيا الرقمية التي تشهد منافسة شرسة, ولأن أي منتج جديد يمكن تقليده بسرعة وتطويره فلا مجال هنا للاحتكار لفترات طويلة كما تقول مجلة الايكونومست, لكن ما ستفتقده الشركة هي قدرته السحرية علي تسويق منتجاته وجعل المستخدمين يعتقدون أن الحياة بدونها كئيبة وعناده ومثابرته وحرفيته وحرصه علي الكمال والجودة. الساحر ترك وراءه إرثا من القدرات الإدارية ذات الكفاءة, والقدرة علي تشجيع الابتكارات وتطبيقها, لكن أهم ما تركه هو إسلوب في التفكير الإداري, يضع سعادة المستخدمين وإمتاعهم في المقدمة والحفاظ علي إنجازات الشركة وأرباحها في المؤخرة. في أحدي المرات قال جوبز لصديق طفولته الحياة قصيرة فلا تبدد وقتك في أن تحيا حياة يريدها الآخرون لك, لا تجعل الأصوات الصاخبة في الخارج تشوشر علي الصوت في داخلك. والأهم أن تمتلك شجاعة تحقيق ما يقوله لك قلبك وحدسك ستيف جوبز كان ضمن قليلين استطاعوا أن يغيروا حياتنا فاستحق أن يطلق عليه وصف الساحر