تبدو العدالة الاجتماعية هدفا أساسيا لثوريي25 يناير في مصر, وهي تبدو في الخطاب السائد بعد الثورة كأنها قيمة علوية تحلق فوق المكان والزمان وليست مسماة باسم نظام اقتصادي بعينه يتبعه المجتمع. فهي تأتي ملحقة بالديمقراطية أو حتي بالليبرالية السياسية, وتكاد تقترب أحيانا من أن تكون قيمة أخلاقية يؤمن بها الجميع علي السواء, اليمينيون واليساريون والذين في الوسط; أي الذين يؤمنون بالسوق الحرة وبأن تدخل الدولة لصالح الفقراء ليس حلا, وكذلك الذين يؤمنون بأن ذلك التدخل هو الحل, بالإضافة إلي الذين يؤمنون ببديل يرفض فائدة البنوك ويحض علي الإحسان. ونادرا ما يركز علي ما في النظام الرأسمالي العالمي من جور وأزمات دورية وشاملة. ويكاد أن يكون هناك ما يشبه الاتفاق عند كثيرين علي أنه لا يوجد بديل للرأسمالية وإن تكن مستصلحة وأن هناك دورا رئيسيا للمشروع الرأسمالي في خلق الثروة وأن رأس المال الخاص جوهري بالنسبة للاستثمار الاقتصادي. وكانت العدالة الاجتماعية في البلاد الرأسمالية الأوروبية أثناء حكم الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية تتحقق جزئيا بتدخل الدولة في السوق أو بتأميم بعض القمم الاقتصادية الحاكمة( الطاقة والنقل والصلب والسيارات), كما روعيت حقوق العمال في الأجور وشروط العمل. وقد تم سحب معظم ذلك منذ أزمة الثمانينيات بحملات الخصخصة التي أضعفت عدالة التوزيع مما زاد من عدم المساواة الاجتماعية. ولكن كثيرا من الناس في العالم النامي اليوم وفي مصر يرون أن الحياة التي يتوقون إلي مثلها في بلادهم هي الحياة المعلن عنها في الولاياتالمتحدة, كما يبدو لهم ما يشاع عن الرفاهية السويدية حلمأ سعيدا. فكلا النموذجين يمثلان تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية في استصلاح النظام الرأسمالي وخصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ومنظومته الاشتراكية. وعند بعض الشباب الثوري في25 يناير قد يكون الوعد برأسمالية ليبرالية ناجحة جديرا بإنعام النظر. لذلك جاءت أخبار الاحتجاجات في نيويورك ممثلة في حركة احتلوا وول ستريت مفاجأة للذين استهلكوا الدعاية الأمريكية فيما مضي. وقد بدأت الاحتجاجات في سبتمبر ثم تضخمت أعدادها وانتشرت في أكثر من عشر مدن. وقد فوجئ بعض من القراء المصريين عندما طالعوا في عدد16 يوليو2011 من الإيكونوميست أن عددا أكبر من الأمريكيين أصبحوا أكثر جوعا وأن هناك أعدادا متزايدة من الأمريكيين يعتمدون علي طوابع الطعام لمجرد أن يجدوا شيئا يأكلونه. كما جاءت أنباء كئيبة في8 يوليو2011 عن أن معدل البطالة ارتفع إلي9.2%. وقد أعلن كل من الجمهوريين والديمقراطيين أن ذلك برهانا علي بلاهة سياسة الحزب الآخر وتساءل الجمهوريون كيف يناقش الديمقراطيون مجرد مناقشة زيادة الضرائب لتمويل الإنفاق الاجتماعي حينما يكون الاقتصاد ضعيفا بهذا القدر. ويرد الديمقراطيون كيف يستطيع الجمهوريون الدعوة إلي تخفيضات كبيرة في الإنفاق الاجتماعي حينما يكون هذا العدد الكبير من الأمريكيين يعانون من فاقة شديدة. وفكرة أن الأزمة ترجع إلي أسباب في صميم النظام نادرا ما تهتم بها الميديا العالمية ومعالجتها مستمرة في ضرورة إنقاذ أصحاب المصارف ورجال الأعمال بأموال دافعي الضرائب لأن واجب الدولة في رأيها هو خلق مناخ استثماري جيد يمكن من الحصول علي أرباح مرتفعة. وهنا ادعاء بأن هذه الأرباح المتضخمة ستسيل قطراتها إلي أسفل أي سترشح بشكل سحري وهو ما لم يحدث قط إلا في شكل القليل من فتات تتساقط من الموائد المتخمة. ولكن لاعقلانية النظام الرأسمالي تصبح بادية للعيان في أوقات الأزمة. ففي وسط صيف2009 وقفت ثلث معدات الرأسمالية بلا تشغيل في الولاياتالمتحدة علي حين كان ما يقرب من17% من قوة العمل إما عاطلين أو مرغمين علي العمل بعض الوقت. ولكن الرأسمالية ستستطيع بطبيعة الحال أن تتجاوز الأزمة الحالية وإن كان ذلك بثمن فادح تتحمله كتلة الشعب التي ستخسر كثيرا من حقوقها ومكتسباتها السابقة التي حصلت عليها بنضالها مثل حقها في الإسكان وحقوق المعاش بعد سن العمل وأن تتحمل الكبت السياسي والعنف البوليسي لخنق الاضطرابات الناشئة. وما قيل من أن العالم أصبح قرية كونية متشابهة لم يتحقق فقد عجزت الرأسمالية العالمية عن تقريب مستويات النمو الاقتصادي ومستويات المعيشة ولم يعد هناك تقدم ورخاء للعالم بأكمله بل صار التدهور الاقتصادي والانحطاط الثقافي أمورا يعاني منها سكان الكثير من بلاد العالم الثالث. لقد تطور جهاز اقتصادي يكاد يكون مستقلا بذاته هو سوق المال يري بعض الناس سلوكه كأنه أحداث طبيعية لا قدرة للبشر علي تحديها. إن هذا الجهاز هو الذي يربط في المحل الأول أمم العالم بعضها إلي الآخر ربطا وثيقا. وقد مكنت العولمة أصحاب الثروة في السويد مضرب الأمثال علي إمكان تطبيق نظام رأسمالي تسوده العدالة الاجتماعية من أن يرفضوا هذه السياسة مستثمرين أموالهم في بلاد أخري منذ الثمانينيات لا بسبب ارتفاع الضرائب التصاعدية وحدها بل بسبب ارتفاع أجور القوي العاملة. ونتيجة لذلك خفضت الحكومة الضرائب علي الدخول العالية. وكانت المحصلة ارتفاع العجز في الموازنة ارتفاعا كبيرا وتخلت الحكومة عن الكثير من برنامج العدالة الاجتماعية. إن الضريبة التصاعدية المرتفعة كأداة للعدالة الاجتماعية يتم التخلي عنها. وهذا هو ما يجري في بعض البلاد الأوروبية الأخري من تخل عما تسمي دولة الرفاهية القائمة. إن أزمة الديمقراطية في الغرب الرأسمالي ليست ناشئة عن خلل فيها بل عن سيطرة فئة قليلة من المواطنين علي الاقتصاد والمؤسسات السياسية. وفي مصر واجه تطبيق العدالة الاجتماعية كارثة اتحاد الثروة والسلطة واغتصاب نسبة50% للعمال والفلاحين. فهناك دعوة مادامت هذه النسبة مقرة قانونا إلي تحويلها إلي تمثيل حقيقي بدلا من المهزلة الواقعية. ولا يجب اختزال الديمقراطية في حملات انتخابية وتمثيل برلماني فهي ممارسة يومية حياتية في البيت والمدرسة وأماكن العمل وإفساح المجال للمنتجين في الدوائر العملية والذهنية لأن يكونوا المسيطرين في الاقتصاد والسياسة. ولكي يتحقق ذلك لابد من أن يكون للجماهير الشعبية الواسعة حق التمثيل الصحيح وحق التنظيم وحق الدفاع عن مصالحهم في المدي الطويل لا القصير فقط. فالنقابات المستقلة والأحزاب السياسية التي تعبر عن هذه الحقوق من أهم أدوات العدالة الاجتماعية. كما أن حرية حركتها وسيلة مهمة لتحقيق هذه العدالة. المزيد من مقالات ابراهيم فتحى