مما لا شك فيه ان حكم محكمة القضاء الاداري ببطلان عقود خصخصة وبيع الشركات الثلاث واستردادها بكامل أصولها إلي ملكية الدولة بالحالة التي كانت عليها بعد التعاقد مطهرة من جميع الديون. والرهون وحفظ حقوق العمال وبطلان جميع القرارات والاجراءات التي تم اتخاذها منذ إبرام هذه العقود بعد ان تم بيعها في اطار عمليات الخصخصة المريبة والفاسدة التي انتهجها النظام البائد, يمثل حكما تاريخيا تسطره سجلات الوطن, بصرف النظر عما أثاره ذلك الحكم من جدل وتباين في الاراء عن امكانية تنفيذه واثاره وتداعياته علي مصر في هذا التوقيت الدقيق والظروف الحرجة, واحتمال ان يستتبع ذلك أحكام مماثلة بشأن ما يزيد علي مائتي شركة كبري تمت خصخصتها وفقدتها مصر. لسنا بصدد الهجوم علي سياسة الخصخصة فهي كسياسة وتوجه اقتصادي لا غبار عليها شريطة الالتزام بالضوابط السلمية لتطبيقها وآلياتها وأدواتها وفي إطار يخدم المصلحة العليا للدولة, لكن ما نحن بشأنه هو حتمية احتواء آثار عمليات الخصخصة الفاسدة وتقليل تداعياتها إلي المستوي الأدني واصلاح ما جري خلالها من انحرافات جسيمة استنزفت الاقتصاد القومي ومازالت تلقي بظلالها عليه, خاصة مع اساءة البعض لفهم هذا التوجه وتسميته خطأ بالتأميم في حين أن الحقيقة أنه تصحيح لمسار منحرف يرقي بممارساته إلي درجة الخيانة للوطن ومقدراته وتلاعب واهدار بثرواته. المسألة ليست هينة وتتسم بالتشابك والارتباط بين القطاعات الاقتصادية المختلفة ولاسيما القطاع المصرفي خاصة أن هناك العديد من البنوك تتحمل جزءا من المسئولية جراء قيامها بدور المستشار المالي لعمليات البيع وتحديد قيمة الصفقات بناء علي عمليات التقييم التي اجراها خبراؤها والتي تخضع لافتراضاتهم وتوقعاتهم في ظل عدم وجود قواعد مطلقة لهذه الافتراضات يمكن الاستناد اليها لضمان صحة التقييم من عدمه وللأسف فإن معظم ان لم يكن كل عمليات التقييم للشركات المخصخصة جاءت مغايرة للقيم الحقيقية العادلة لهذه الشركات وصبت في صالح المستثمر علي حساب الاقتصاد المصري والمصلحة الوطنية. ان الالتفات إلي ما بعد هذا الحكم من حيث امكانية وآليات تنفيذه هو مسألة حتمية, خاصة في ظل وجود مبالغ هائلة من القروض التي منحتها العديد من البنوك للشركات المخصصة والتي بدأت علي الفور ادارات المخاطر في هذه البنوك في حصرها, كذلك الأمر بالنسبة للبورصة التي تمر بفترة حرجة, خاصة أن هناك العديد من الشركات التي تمت خصخصتها عبر طرح حصص منها في البورصة, ووجود استحالة قانونية وعملية لتنفيذ رد تلك الحصص للدولة حتي لو قضت المحكمة بذلك خاصة ان هذه الأسهم تم بيعها وشراؤها وتداولها في السوق الثانوية ولم تبق في أيدي المكتتبين في الطروحات العامة, كذلك يجدر اعتبار وتوقع ردود الأفعال من المستثمرين المعنيين بهذه الشركات وغيرها من الشركات المتوقع فتح ملفاتها واحتمال لجوء هؤلاء للطعن علي هذه الاحكام بالمحكمة الادارية العليا, وكذلك لجوؤهم للتحكيم الدولي, والاحتمالات المختلفة الناتجة ولاسيما مع التقديرات التي تشير إلي أن حجم المطالبات المحتملة قد تصل إلي800 مليون دولار. إن هذا الحكم التاريخي ودلالاته يثير مسألة تمثل القدرة علي المحافظة علي ذلك التوازن الدقيق بين تصحيح المسار المنحرف لعملية الخصخصة الفاسدة ومحاسبة المسئولين من ناحية, ومن ناحية أخري ألا يكون ذلك علي حساب المستثمرين الجادين والبيئة الاستثمارية والاقتصادية الراهنة والتي اصبحت شديدة الحساسية للمتغيرات والمعطيات ولاسيما بعد الثورة; وفي وقت نحن في أمس الحاجة فيه لتحقيق الاستقرار واجتذاب الاستثمارات لمعالجة اقتصاد اثخنته القرارات والسياسات طوال الثلاثين عاما المنقضية.