تتكاثف دعوات التغيير وتتسارع عوامل النهوض فقط في لحظتي: الوحي, عندما ينبثق دين جديد. أو الثورة, عندما يولد وعي جديد, فلا يمكن لواقع جديد أن يولد علي جثة السائد والمألوف إلا بواسطة شخصية استثنائية سواء من حاملي الرؤي المبشرين بما فوق عالمنا( الأنبياء), أو من حاملي السيف والفكر المبشرين بمستقبل أيامنا( الأبطال). فالوحي والسيف وحدهما قادران علي كسر المعتاد والمألوف, والخروج من أسر الكهوف. وقد كان جمال عبد الناصر, مهما اختلف الناس عليه أو معه, أحد أولئك الأبطال الذين اقتحموا التاريخ بحدث ي كان ناصر بطلا تاريخيا بحق التغييرات التي أحدثها في موقع مصر داخل الإقليم والعالم, عندما قادت حركة التحرر القومي ضد الاستعمار الغربي, أملا في إعادة امتلاك المصير والتأثير في حركة التاريخ, الذي كان قارئا واعيا له, مدركا لمنطق سيره ولطبيعة القوي الصانعة له, غاضبا من الهيمنة الغربية, تواقا إلي الخلاص منها. يشي بذلك موقفه في حرب فلسطين وإدراكه المبكر لجوهر الصراع في المنطقة والوظيفة الحضارية لإسرائيل. وكذلك وعيه العميق بدور قناة السويس ليس علي المستوي الإستراتيجي أو الاقتصادي فحسب بل علي المستوي الرمزي كمعني ومغزي, ومن ثم تلهفه الشديد علي تأميمها رغم المخاطر المحدقة; لأن فعل التأميم لم يكن يمثل له مجرد تحقيق عائد مادي أو سياسي, بل كان فعل تحرر كامل من ذلك النوع الوجودي الذي يعيد تأسيس الذات الحضارية, وهو أمر صدق تماما فيما بعد, حيث غير قرار التأميم وما تبعه من ملابسات الحرب والدبلوماسية من طبيعة النظام الدولي القائم, وأدي حسب العظيم جمال حمدان في كتابه الرائع استراتيجية الاستعمار والتحرير إلي توقيف موجة الاستعمار وتدشين موجة التحرير في التاريخ السياسي العالمي. لقد رآه البعض عسكريا متهورا, دفع بمصر إلي أتون الصراعات والحروب من دون تعقل, متجاهلين روح البطل داخله, تلك الروح التي تدفع بالأحرار إلي قتال الآلهة أنفسهم كما يحكي لنا شاعر اليونان الكبير هزيود في كتابه( الأيام والأعمال) عن البطل الإغريقي الذي تحدي قرار زيوس, الرئيس المستبد لمجمع الآلهة اليوناني!, بمنع نار المعرفة والحكمة عن البشر التعساء. وكيف قام بروميثيوس بسرقة جمرة من هذه النار المقدسة وعاد بها إلي الناس, مانحا لهم ما حرموا منه. وهنا يشتد غضب زيوس علي بروميثيوس فيأمر بأن يشد بالأغلال, ويسلط عليه نسرا, يرعي كبده في النهار حتي إذا طلع اليوم الثاني عادت كبد بروميثيوس تنبت من جديد, وعاد النسر يفترسها.. وهكذا حتي قدم البطل الإغريقي الأشهر هيراكليس أو هرقل, أخيرا وحرره. هكذا تؤكد الأسطورة إمكانية انتصار الإنسان علي تجهم القدر وسطوة الأعداء طالما انحاز إلي المثل الكبري للحياة كالحق والعدل والمعرفة والحرية. فإذا مات أحد أبطال الإنسانية بعث في سواه, ملهما ومحفزا لمن والاه.. ولم يكن عبد الناصر سوي ذلك الطراز الرفيع من الإنسان, بطلا حقيقيا دافع عن حق وطنه وأمته والإنسانية معتصما بكرامته وإرادته, ضد هيمنة الغرب, الذي منح نفسه موقع الآلهة ووضع نفسه موضع الأقدار. وكان بطلا أسطوريا عندما لعب دور روبين هود في التاريخ الشعبي الإنجليزي, جمع هود بين المتناقضات, فكان سارقا وزاهدا معا, يسرق الأغنياء كي يعطي الفقراء, أما عبدالناصر فكان بطلا كاملا, متسقا مع نفسه دائما لم يخنها وإن خانه الزمن والأعداء وربما الأصدقاء. قرر ناصر أن يعيش زاهدا فعاش كذلك, كما قرر أن ينحاز للفقراء فانحاز لهم بإرادة دولة فتية لا بإرادة لص شريف.. قاد عبد الناصر مشروعا تحديثيا أخذ إلهامه من الحداثة الأوروبية وإن في صورتها الاشتراكية السلطوية, فأحدث في مصر تغييرا امتد إلي عمق المجتمع المصري وشكل العلاقة بين طبقاته, وإلي بنية شكل النظام السياسي بكل مكوناته وحتي رموز الدولة( كالعلم والنشيد الوطني)... ولعله صحيحا أن هذا المشروع لم يبلغ الأفق الديمقراطي قط, ولم ينفتح أبدا علي تيارات الحركة الوطنية خصوصا تلك التيارات الديمقراطية وعلي رأسها الوفد كنتيجة لحال من الشك المتبادل, غير أن الأمر المؤكد أنه قد تبني أكثر مطالب الحركة الوطنية نبلا وعمقا كإقامة جيش وطني, وتأميم قناة السويس, وبناء السد العالي, وتحقيق الإصلاح الزراعي, وفرض التعليم النظامي الواسع الذي كان طه حسين قد اعتبره( كالماء والهواء). كما حقق الكثير من الأهداف التحديثية العميقة التي تعد شروطا موضوعية, لازمة وسابقة, لأي تحول ديمقراطي حقيقي, إذ بفضلها تم إحداث قطيعة مع القيم الرعوية كالاستسلام والخضوع والقدرية وربما الشعور بالدونية الذي كان قد تكرس في الشخصية المصرية لقرون طويلة.. فليرحمك الله يا ناصر.