برامج دراسية متميزة للتأهيل على وظائف المستقبل بجامعة مصر للمعلوماتية    رقم قياسي جديد.. الحمل الأقصى للكهرباء يسجل 38.8 ألف ميجاوات    أسعار الأسماك والمأكولات البحرية في سوق العبور اليوم    سويلم: إزالة 87 ألف تعد على النيل منذ 2015 ومواصلة مكافحة ورد النيل    محافظ أسيوط يتابع إنشاء أول مصنع متكامل لمنتجات الرمان بالبداري    صور.. قافلة "زاد العزة" تنطلق إلى غزة محملة بأكثر من 1200 طن أغذية    قوافل المساعدات الإنسانية تبدأ التحرك من الأراضي المصرية باتجاه قطاع غزة    رفح.. شريان حياة غزة تحت الحصار    استشهاد 10 فلسطينيين وإصابة آخرين جراء قصف خيام واستهداف منتظري المساعدات بغزة    مقتل 6 أشخاص جراء تدافع في معبد هندوسي شمالي الهند    "غيبوبة لليوم الرابع".. مناشدة عاجلة بعد تطورات الحالة الصحية لحارس دجلة    3 أوجه تشابه بين صفقتي بوبيندزا وأوكو مع الزمالك    «تالجو وتحيا مصر».. جدول مواعيد قطارات «الإسكندرية - القاهرة» اليوم الأحد 27 يوليو 2025    الداخلية تضبط المتشاجرين فى القاهرة بسبب شقة    ريم أحمد: شخصية «هدى» ما زالت تلاحقني.. وصورة الطفلة تعطل انطلاقتي الفنية| خاص    كان موظف ولم يخطط للعمل كممثل.. معلومات عن رشدى أباظة فى ذكرى وفاته    ذكرى ميلاد فريد شوقي.. أيقونة الفن المصري وحكاية لا تنتهي    ارتفاع مؤشرات البورصة بمستهل تعاملات جلسة بداية الأسبوع    إصابة 6 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بالطريق الأوسطى    إخماد حريق داخل شقة سكنية فى بولاق الدكرور دون إصابات    بعد عتاب تامر حسني لعمرو دياب.. تعرف على الأغنية رقم 1 في تريند «يوتيوب»    "الصحة": حملة 100 يوم صحة قدّمت 15.6 مليون خدمة طبية مجانية خلال 11 يوما    بدء تظلمات الثانوية العامة اليوم.. والتقديم إلكترونيًا لمدة 15 يومًا    لأول مرة .. اختبارات علمية لتحديد ميول وقدرات الطلاب قبل اختيار المسار الدراسى    «الإفتاء» توضح الدعاء الذي يُقال عند الحر الشديد    بعد تلقيه عرضا رسميا .. ريبيرو يمنح الأهلي الضوء الأخضر لرحيل كوكا إلى تركيا    إصابة 11 شخصا في حادثة طعن بولاية ميشيجان الأمريكية    بدعم من شيطان العرب .."حميدتي" يشكل حكومة موازية ومجلسا رئاسيا غربي السودان    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية»| الأحد 27 يوليو    القاهرة الإخبارية: المساعدات لغزة تحمل كميات كبيرة من المواد الغذائية والطحين    تعقد فعالياته بمقر الأمم المتحدة .. وزير الخارجية والهجرة يتوجه إلى نيويورك للمشاركة فى مؤتمر دولى حول فلسطين    الأرصاد الجوية : اليوم ذروة الموجة شديدة الحرارة والعظمى بالقاهرة 41 درجة وأسوان 46    طريقة عمل البسبوسة الاحترافية في البيت بأقل التكاليف    وزير الثقافة: نقل صنع الله إبراهيم إلى معهد ناصر بالتنسيق مع وزارة الصحة    حياة كريمة.. افتتاح جزئى لمستشفى دار السلام المركزى بسوهاج اليوم    الكلية الحربية والبحرية والجوية 2025.. خطوات التقديم وشروط القبول بالتفصيل    تنسيق الجامعات 2025.. الكليات المتاحة لطلاب الأدبي في المرحلة الأولى    القصة الكاملة لحادث انهيار منزل في أسيوط    الثالث علمي بالثانوية الأزهرية: نجحت بدعوات أمي.. وطاعة الله سر التفوق    «الحشيش مش حرام؟».. دار الإفتاء تكشف تضليل المروجين!    ما حكم شراء السيارة بالتقسيط عن طريق البنك؟    بعد فتوى الحشيش.. سعاد صالح: أتعرض لحرب قذرة.. والشجرة المثمرة تُقذف بالحجارة    «تجاوزك مرفوض.. دي شخصيات محترمة».. نجم الأهلي السابق يفتح النار على مصطفى يونس    لطيفة تعليقًا على وفاة زياد الرحباني: «رحل الإبداع الرباني»    «حريات الصحفيين» تعلن دعمها للزميل طارق الشناوي.. وتؤكد: تصريحاته عن نقابة الموسيقيين نقدٌ مشروع    سعيد شيمي يكشف أسرار صداقته مع محمد خان: "التفاهم بينا كان في منتهى السهولة    أعلى وأقل مجموع في مؤشرات تنسيق الأزهر 2025.. كليات الطب والهندسة والإعلام    عيار 21 بعد الانخفاض الكبير.. كم تسجل أسعار الذهب اليوم الأحد محليًا وعالميًا؟    "سنلتقي مجددًًا".. وسام أبوعلي يوجه رسالة مفاجئة لجمهور الأهلي    نيجيريا يحقق ريمونتادا على المغرب ويخطف لقب كأس أمم أفريقيا للسيدات    خالد الجندي: من يُحلل الحشيش فقد غاب عنه الرشد العقلي والمخ الصحيح    وسام أبو علي يودع جماهير الأهلي برسالة مؤثرة: فخور أنني ارتديت قميص الأهلي    "مستقبل وطن المنيا" ينظم 6 قوافل طبية مجانية ضخمة بمطاي.. صور    تأكيدا لما نشرته الشروق - النيابة العامة: سم مبيد حشري في أجساد أطفال دير مواس ووالدهم    الأمم المتحدة: العام الماضي وفاة 39 ألف طفل في اليمن    وزير الثقافة: نقل الكاتب صنع الله إبراهيم إلى معهد ناصر بالتنسيق الصحة    زيادة 2000 جنيه للطن.. سعر الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء الأحد 27 يوليو 2025    البنك الأهلي يعلن رحيل نجمه إلى الزمالك.. وحقيقة انتقال أسامة فيصل ل الأهلي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مآزق مأساوية ومفارقات مضحگة...من حرگة الطلبة إلي گهوف أفغانستان
نشر في القاهرة يوم 31 - 08 - 2010

هذه رباعية روائية للروائي المبدع عزالدين شكري كل عمل منها وحدة مستقلة رغم أنه يكمل ما سبقه ويكتمل بما جاء بعده؛ ولها جميعًا خصائص مشتركة. ولا يعتمد كل عمل علي تسلسل حدث خارجي بل علي الخلفية الذهنية والشعورية لوعي شخصيات رئيسية متعددة في مواجهة تطور أحداث عامة. وهي تكاد أن تكون متفردة، تخرج علي ما تكرر قوله من أن الرواية الأحدث لا تهتم بالسياسة ولا بالتاريخ في غمرة انشغالها بالذات وأنها في تكثيفها لابد أن تكون قصيرة. فرباعية "مقتل فخر الدين"، "أسرار الفراعين"، "غرفة العناية المركزة"، "أبو عمر المصري" تتابع المسار الخاص للنوع الروائي: مسار الحاضر بوصفه تاريخًا ومسار الكاتب الروائي باعتباره مؤرخًا خفيا غير رسمي. ولكن الموضوع السياسي التاريخي في هذه الروايات يصير موضوعًا إنسانيا جماليا. فالفن في هذه الروايات المصرية العربية هو وعي الإنسانية بذاتها، بتناقضات تطورها وما في هذا التطور من مآزق مأساوية ومفارقات مضحكة. وهذا الوعي هو ما يمكن تجربته شعوريا بالإضافة إلي اعتناء الروايات بالتقنيات التشكيلية أكبر اعتناء، فنحن أمام عمل أو أعمال فنية متميزة وصفت بحق بأنها فذة.
فخر الدين
إن الشخصية الرئيسية في الروايات شخصية "فخر الدين" شخصية سياسية يسخر بمواقفه من السياسة بمعني القمع والكبت وراء الشعارات الفارغة والمناورات وإخفاء الواقع وراء الاكاذيب والتحولات اللامبدئية. فالسياسة في منطق الروايات ترتبط بالمصير الإنساني وتقييم السلوك الإنساني في كليته.
فخر الدين لا يولد كما يولد سائر البشر بل في اعلان صاخب عن قدوم فرد تحيط به رسالة أسطورية ينتظرها عالم قد دب فيه خلل مريع. إن ميلاده عجائبي خارق كمولد أبطال السير الشعبية؛ أمه عائشة في مولده تفتح عينيها لتبصر النور الوضاء يغشاها ويتخللها ويندس في أناملها فيملؤها وينساب من جسدها بعد أن يغسله ويغمره ويخرج من بطنها ويبرق ويطير سحابات من الشباك فيجتاز سماء القرية ويعبر الأفق ويملأ الأرض من تحته فيحيلها نهارًا ناصعًا وحجارة مضيئة وحقولاً مشرقة. وتبصر أمه وليدها بجناحيه الأشهبين يمرق بين السحب، ورأي الجميع الضوء الغامر فأسمته فخر الدين. وقد أكلت مكنة الطحين أباه قبل أن يولد، وتوفيت أمه وهو في الرابعة. ونجد تصويرًا تفصيليا للأشياء عند موت الأم والوصي كان عمه. وقد أرسل في موازاة جزئية إلي البادية عند أهل مرضعته كما حدث لأشرف المرسلين ليمارس رعي الغنم بالنهار وليتعلق بالنجوم والكواكب في الليل لنسمع صوت الراوي كلي المعرفة يعلق علي تكوينه الطاهر السامي، ففي صحبة الغنم والصحراء تهذبت طباعه ونقت نفسه وسمت مراميه وتبدلت حياته. وفي ليلة من ليالي الشهر الأخير من إقامته مع مربيته وقعت حادثة أسطورية ، فقد التقي الشيخ عمر بعد أن أبصر نارًا قوية علي مبعدة فاتجه إليها. وعندما فتح عينيه غشيها ضوء عظيم ورأي في النور وجهًا نقيا كأنه هو النور نفسه بلحية بيضاء وعينين طيبتين وفي يده عصا كأنها عصاه فتبعه خائفًا مأخوذًا ليخبره بأنه سيكون له شأن عظيم، فلا يخف من هول الأمانة. إنه يحاكي هنا المنذورين لرسالة تقترب من أن تكون عليا، ويعبر عن استجابة لحاجة عميقة في قلب الواقع الشائه لتجاوز الظلام والعفونة والقهر، حاجة تظل متأججة ولا تخمدها محاولات اغتياله التي تلاحقه أينما حل. فهو منتظر مرجو. عرفه أهل قريته بحسن خلقه ورجاحة عقله وكان علي حداثة سنه مبجلا بينهم يلجأ إليه شباب القري للمشورة والصحبة الطيبة ويحبه رجالها لأدبه الجم وعفته ويتوسم فيه شيوخها الخير فهو قطب جاذب. ولكنه في السادسة عشرة من عمره يجد نفسه في قلب مستنقع عائلي عفن. فابنة عمه ليلي أخطأت مع جارها الذي يريد الزواج بها وتحبه، ولكن العم يريد تزويجها لفخر الدين حتي لا يعطي خيره لغيره لأن جارها "هلفوت" وأهله فقراء. ورفض فخر الدين السقوط وترك القرية بعد أن كشف الفضيحة لأهلها. ويحكي الراوي علي ربابته أن بغلة حملت جثته المشوهة بطعنات عمه الغائرة. ولكن هل قدر له أن يموت؟ لقد ظهرت شخوص يسمي كل واحد منهم فخر الدين في عدة مدن من دلتا مصر الشرقية في الفترة نفسها، ظهرت في بنها وميت غمر وفي المنصورة، وهؤلاء الشباب تنسب لكل منهم قصص وأحداث أسطورية لم يأت بمثلها بشر. ففي الوعي الشعبي تعددت حيوات فخر الدين عيسي. إنه ليس قالبًا ولا تجسيدًا للسمات الجاهزة القياسية بل يمكن أن نصفه بأنه نموذج بمعني مختلف، أي بأنه كيان يبدعه الروائي ليواجه أعمق أبعاد العصر وأكبر مشكلاته وأحدّ تناقضاته أي عما لا يمكن إدراكه في الحياة اليومية بالملاحظة المباشرة. ففي شخصية فخر الدين والسياقات التي يحيا فيها والمواقف التي يتخذها نري تصويرًا شاملاً لجميع المحددات الإنسانية والاجتماعية في أعلي مستوي من التطور وفي أعمق تكشف للإمكانات الكامنة المتخيلة قبل أن تتحقق في الواقع وكذلك في أقصي تجسيد لأطرافها المتصارعة. ويصور الروائي في تلك الشخصية المتخيلة الإمكانات القصوي في أقصي فورانها، فخطوط حياتها تشتبك مع خطوط الذين حولها ونعرف الكثير عنهم، فالذات الإنسانية هي نتاج تأثير الآخرين. والسرد هنا انتقائي بعض الشيء، فهو يركز علي الشخصية الرئيسية بواسطة تصوير القوي التي دخلت في تكوينها. إنها شخصية مثالية المفاهيم، والأفكار عندها لا تقل واقعية عن الأشياء، وتعيش علي مبعدة قد لا تكون محسوبة من العالم الواقعي فهي تتوهم أنها تستطيع أن تقنع العالم بأن يسلك وفقًا لدعوتها المتميزة بالإلحاح والإصرار ولا سيطرة لها علي واقعها المحيط بها الذي يؤلمها ويصيبها بالرضوض والجروح. وفي تصويرها الفعلي في الروايات نجد تعايشًا بين عناصر من الواقع الاجتماعي والسياسي ومن الدقة السيكولوجية الفردية داخل تصميم شكلي متوازن.
مقتل فخر الدين
إن رواية مقتل فخر الدين تبدأ وتنتهي بالمنظر نفسه، استيقاظه من النوم في وقت استعداد محكم لقتله من جانب أجهزة فائقة القوة ولكنهم ظنوا أنهم قتلوه، وقد خيل إليهم ذلك لأنهم قتلوا ابن خاله الذي أخذ هيئته ومكانه. وفي مطلع الصباح كان يعمل في المنصورة في مطبخ منذ الغروب وحتي منتصف الليل مقابل جنيه يوميا. وذلك العمل مكنه من مزاولة الحياة في المدينة ومواصلة الدراسة دون أهل أو سند. تعرف في الثانوية علي صديق ملازم هو ناصر الخضري. وكانت له تحفظات علي المدرسة، فهو يرفض أسلوب المدرسة والمدرسين ومواد الدراسة وكان مثقفًا جدًا وخصوصًا في التاريخ والعلوم الاجتماعية والفلسفية ويناقش ويحاور ويتجاوز حتي يطرد. ثم قرر الصديقان دعوة الطلبة للامتناع عن دخول الامتحان ولم يقبل بذلك أحد، واستمرارًا لذلك رسبا وأعادا السنة، وانكسر شيء داخل فخر الدين وكأنه مات وجاء شخص آخر يشبهه في الشكل دون الطباع أو الروح. هل كان يأسًا أم استسلامًا؟ توقف عن إثارة أي مشاكل ودخل الامتحان وحصل علي درجات عالية جدًا وكان الأول علي المحافظة ثم اختفي من المنصورة وذهب للقاهرة والتحق بالجامعة هناك مندمجًا مع صديقه ناصر، هاربًا إلي داخله في هجرة اكتشاف للذات من جديد ينقيها من الشوائب والعقد ويطهرها من الآثام ومن الحقد ويسمو بها إلي آفاق أرحب وأسعد (تشبه الهجرة إلي الله). والتقت روح فخر الدين بروح ناصر في موسيقي باخ التي تملأ عليهما "الغار" وتنسج خيوطًا للعنكبوت علي الباب وتفصل المدينة وتبعد ضوضاءها، وارتديا أجنحتهما واشتد حصار الجهال للغار وحمي وطيس القتال فكسروه وخانه ناصره. حين وجب الرحيل أنام ابن خاله في فراشه كي يفر آمنًا من سطوة الحرس. أخيلة تستمد من هجرة الرسول وتمجدها وبعد ذلك يكتب فخر الدين مسرحية تملؤها روح التمرد العنيفة ويقرأ دواوين شعر لدرويش ودنقل وحجازي. ويقول له المشرف "هناك عبارات لا تصلح للإلقاء في مكان عام مثل نحن نعيش في زمن مضطرب فهو كلام غير لائق. ولكن المسرحية يا دكتور تدور في القرون الوسطي وكان تمرده متواضعًا إنه بغض النظر عن الاختلافات بين الطلبة يري أنه يجمعهم الانتماء إلي الجامعة ويريد أن يؤدي الجميع واجبهم الذي يفرضه عليهم وضعهم كطلبة إزاء الجامعة أو إزاء أهلهم أي إزاء المجتمع بالأدق وكل ذلك لا يمكن أن يتم طالما تكبت حرية الطلبة وتقمع آراؤهم ولا تعطي لهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم. وهو ينقد زملاءه الذين يسيرون في نهر الحياة الذي يسقون منه حقولهم دون أن يكونوا مستعدين لحظة واحدة للنظر في توزيع الماء أو الأرض كأنهم شجر فأين المفر؟ العفن أشد قوة ورسوخًا في الفروع والجذور من أن يحاول ترويضه ناهيك عن تطهيره. آثر الابتعاد ولكن الرائحة مازالت تزكم روحه. كان يشعر بغثيان قوي من قصائد زملائه عن العفن والعطش والقيء رافضًا العلاقة بين النضال وبين إثارة القرف. كان شديد الوعي بنقائص زملائه ولكنه لم يجد بديلا سوي السكون والاستسلام، فكان عليه أن يحارب مع جند فاسدين عدوَّا فائق القوة لأن البديل كان موتًا؛ إنه يحاول الوصول إلي صيغة يتفق عليها الجميع ورأيه أن مطالب الحركة محددة فقط بقضية حق الطلبة في التعبير عن آرائهم دون تدخل من الحرس أو المشرفين بدلا من خلق حركة واسعة مهلهلة وقائمة علي الأكاذيب.
عالم متفسخ
نحن أمام عالم يتصف بالتفسخ المتواصل للقيم والأفراد فيه سجناء مصيدة تلك العملية يحاولون التكيف علي عكس ما يشتهي فخر الدين وممارسة طريقة للحياة تناسب الاختفاء التدريجي للقيم. ولكن فخر الدين وأقل القليل من صحبه يواجهون بالرفض تلك العملية وتلك المصيدة التي صارها العالم. إنه عالم في كوكب تسيطر عليه البيروقراطية فهي جوهره. وتعمل الرباعية علي تحويل الواقع والحياة إلي أبنية للمعني. فهي تعيد تعريف الواقع وفقًا لموقف رافض للسلطة البيروقراطية وقيمها، تنطق المسكوت عنه في القصة التي أنتجتها تلك البيروقراطية من الأحداث والناس والقيم وتعيد كتابة السجل التاريخي الرائج من وجهة نظر مناوئة. إن عملية البقرطة التي تسود العالم وتحول مؤسساته المدنية والعسكرية إلي أنظمة إدارية عملاقة لا يستطيع الفرد رؤية آفاقها ولا أهدافها ويتخبط داخلها في أفعال روتينية آلية بلا حرية ولا مبادرة ولا إبداع، فهناك فقط في عالم الطاعة والإذعان أوامر ولوائح ولا يعرف الفرد معني ما يفرض عليه من أفعال. وفي مقابل ذلك تنتج "الرباعية" خطابًا علي الخطاب السائد. ففي "أسفار الفراعين" رؤية فانتازية تفضح الهوية المحتجبة للواقع وترصد نبضه غير المسموع المختل وتجسد اختلالاته متنوعة الصور مدفوعًا بها جميعًا إلي أقصي مدي لها. إنها رؤية كابوسية ساخنة تصور الظواهر المعتادة ببواطنها الغرائبية وترتاد الأعماق المظلمة للواقع المألوف وتكشف المستور وتستنطق المسكوت عنه كما يقول نقاد الرؤية الفانتازية. وفي ذلك مساءلة للمعني الرسمي المفروض وإضاءة لتناقضات الواقع المختبئة.
أسفار الفراعين
وتجسد "أسفار الفراعين" فانتازيا عالم حلت عليه اللعنة، عالمنا الذي نعيشه في جوهره البيروقراطي الفاسد، فالهواء يقطر منه العفن الأخضر ويحمل الهواء "بلاوي" العفن السائل في الشوارع ولا بد للتنفس من قناع الغاز الكريه والجفاف يجعل الناس لا تجد الماء وماء الشرب وماء الغسيل في السوق السوداء بسعر فاحش والجماعات الضالة باسم الدين شديدة النشاط. وتتعدد المناطق الموبوءة والمفقودة وتقدر الجثث بالآلاف وتنتشر علي مجري النهر، وتنكدس وحدات خاصة من الصليب الأحمر لجمع الجثث ودفنها وعمال النظافة يفقدون في الوباء، وباء الطاعون والكوليرا، فالتلوث والعفن بوفران أنسب بيئة لانتشارها. وثمة أبحاث مزعومة للقضاء علي العفن والتلوث لا تلقي اهتمامًا جادًا من المسئولين الذين من المستحيل مقابلتهم، وجولات مفاوضات في الخارج يقوم بها "مفاوضون" غير ملمين بالموضوع ثم لا شيء. "وزير" معدل سفره إلي الخارج مائتا يوم في السنة وأعلي منه رئيس مجلس إدارة شركة التلوث الذي يقضي ثلاثمائة يوم بالخارج. وأهم شيء هو حسن العلاقة بقمة الهرم البيروقراطي المسمي الفرعون فهو وزير كل الوزارات الحقيقي الأول والأخير متخذ القرارات الكبري والمسئول عنها، فلا شيء يذكر بالسلطة الفرعونية سوي لعنتها. ونلتقي في "أسفار الفراعين" بناصر الخضري صديق فخر الدين الذي يخطيء في تصوير خيانته لصديقه التي يتوهم أنها تجعل منه ندًا لباراباس، فباراباس ليس يهوذا والسلطة الباغية هي التي أطلقت سراحه ولم تطلق سراح السيد المسيح. وكان بعد خيانته لفخر الدين يطفو علي الحياة ولا يعيش فيها، وفي جنازة والدته كان يشعر أنه مشي في جنازة نفسه ويتقمص خواء روح غريب ألبير كامي ويتساءل أين المفر من هذا الجحيم. وقد سافر فخر الدين مع من يسافرون منتحلا هوية ابن خاله الذي قتل بدلا منه لدراسة الدكتوراه في باريس فسار في طريق غير محدد المعالم ولكنه طريق. وقفز ناصر كالمظليين فوق المستنقعات يطفو دائمًا ويعيش أحيانًا ويغوص كثيرًا فيها، ويري نفسه مثل أنطوان روكانتان في رواية "الغثيان" لسارتر واختناقه بلزوجة الوجود كما يعيش في أجواء "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف، إنه مثل فخر الدين تختلط الأفكار والقراءات عندهما بالواقع دون تفرقة، ولكن ناصر تمتليء شخصيته بالتناقضات. كان يعمل مهندسًا قبل أن يصبح صحفيا ثم باحثًا في علم الاجتماع قبل أن يصبح روائيا، ويعاني الملل دائمًا لا يجد ما يفعله رغم تعدد مواهبه ولا رغبة له في فعل ما يجده. وتلك الشخصية التي تؤمن بعبثية الوجود تشعر بعبثية كل جهد وببرودة شديدة وبالعدم داخلها، يخطط لكتاب جديد منذ شهور ولا يعمل فيه أبدًا يستجيب لواقع شديد البشاعة بالسلبية التامة. هناك جثث بالمئات وبقايا جثث بالمئات وبقايا جثث متحللة أو مهشمة تدفن بلا تمييز ولا طقوس في مدافن جماعية محفورة وسط المدينة أو ما كان وسط المدينة. البعض كان يضطر إلي التقوت بلحم الموتي وذلك لنفاد الطعام ليموت المتقوت بعدها بأيام قليلة، فلحم الجثث مترع بأنواع شتي من الأوبئة. وجماعات تدعي القيام بالغسل في المنازل ويقطع أفرادها المريض إربًا ويبيعون الكلي وحدهاوالكبد وحدها والرئتين وحدهما وقطعًا أخري حسب الطلب، جحيم. وتحكي له صديقته الصحفية التي تناضل ضد الجحيم أنها رأت الإنسان في أسوأ حالات انحطاطه إلي ما دون الحيوان، إلي الحشرات والديدان. وهو لا يستطيع الفعل لأنه غير متأكد من شيء وأنه لا رغبة له في عمل شيء، ويجد كل الأشياء سواء بلا معني فقد وضعته الأحداث ووضع نفسه في مأزق لا مخرج منه، لذلك كانت نهايته بالانتحار منطقية في سياق خلا تمامًا من المنطق. لقد كان يرد علي تحريض صديقته له بأن يتخذ موقفًا إيجابيا بوصفه من النخبة المثقفة متسائلا عمن تكون هذه النخبة المثقفة، فهي في رأيه جزء من هذا العفن وقد تغلغل داخلها وأفرادها جميعًا ملوثون حتي النخاع يتكلمون تلوثًا ويتنفسون تلوثًا ويموتون من التلوث، هم أيضًا فراعين عن طريق التكيف والخنوع، ويواصل الزيغ في تقييمه للنخبة المثقفة ويأسه من جدوي أي عمل، وتصل به العدمية إلي إدانة الشعب واعتباره منخرطًا في التلوث ومسئولاً عنه. أما فخر الدين فقد سار في طريق آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.