لم يكن غريبا ان تجمع كنيسة فيتري بفرنسا هذا الجمع المتباين من اجناس واعمار مختلفة, جاءوا جميعا ليلتقوا لآخر مرة مع شخصية فريدة أثرت فيهم بقدر ما تأثرت هي ببلاد معينة وهي مصر, وعصر محدد وهو العصر الخديوي, فكرست حياتها لتعرف كل شئ عن هذا العصر, وتنقل هذا العشق الي الاخرين. لم يكن غريبا ان تري الكنيسة الفرنسية هذا الجمع المتباين لأن ماكس كركجي هو نفسه يتشكل من كل هذا التباين. فعندما تقابل ماكس للمرة الاولي لا تعرف بالتحديد من اي زمن جاء وفي اي مكان عاش; عشق مصر ولكنه اقام في فرنسا منذ ان غادر مصر في الستينات, يعيش في القرن الحادي والعشرين ولكن قلبه بقي مع القرن التاسع عشر وبداية العشرين; يتحدث عن التاريخ وعلي وجهه قسمات وبين جنباته قلب طفل صغير. عندما تسأله أي جنسية يحمل, يرد قائلا: انا عثمانلي. إنه ماكس كركجي, المصري من اصول تعكس ألوان طيف الامبراطورية العثمانية, مرت عائلته من حلب الي دمشق في الشام يمر بإسطنبول ولايبزيج, ينصهر ذلك في القاهرة. ولقد انعكس عشقه هذا لمصر في القرنين التاسع عشر وبداية العشرين في تكوين واحدة من اكبر المكتبات الخاصة التي ضمت مجموعة من الصور والخرائط النادرة عن هذا العصر, ومجموعة ضخمة من الكتب, ضمت كل ما كتب عن مصر بلغات مختلفة, لتصبح مكتبة كركجي في مدينة فيتري بفرنسا, قبلة كل باحث يبحث عن معلومات عن مصر في تلك الفترة, او أي شخص اهتم وأحب مصر, ويريد ان يعرف المزيد عنها. ولم يكتف كركجي بتلك المكتبة ليفتحها أمام كل باحث ومحب لمصر يمر به, بل قدم ما يملك من صور ومعلومات الي الجميع من خلال موقع اليكتروني باللغات العربية والفرنسية والانجليزية. كتب في تقديمه له يقول: كانت أيام, إبحارة لسبر أغوار تاريخ هذا البلد العريق. يقولون صورة خير من ألف كلمة, ولقد وضعنا هنا آلاف الصور تحت أعين الزائر, ليري آيات من جمال المعمار ورقة الذوق وتناسق التخطيط, لا نرمي به تباكيا علي الماضي ولا حتي الزهو به, ولكن اقتداء بما كان واحتذاء بما كنا ووقع باسمه ماكس كركجي, وزميل وصديق وشريك الموقع عمرو طلعت. كركجي العثمانلي ولد ماكس كركجي في مصر في10 سبتمبر عام1931 ومات في فرنسا في23 اغسطس عام2011, لتصبح حياته طوال ثمانين عاما, عبارة عن رحلة في قلب مصر النادرة, مصر القرنين التاسع عشر والعشرين. جاءت عائلة ماكس الي مصر قادمة من الشام في القرن التاسع عشر, ومن المدهش ان ابراهيم باشا كلف في احد الأعوام, الجد الاكبر لماكس بتنظيم الحج, بالرغم من انه كان كاثوليكي الديانة, ولكن ذلك لم يمنع ابراهيم باشا من تكليفه لما عرف عنه من قدرة كبيرة علي الادارة, كما انه لم يمنع كركجي الاكبر من القيام بتلك المهمة. ولد وعاش كركجي في مصر من عائلة ثرية وكاثوليكية متدينة, قطنت مبني في ميدان عبد المنعم رياض الحالي, ومازال موجودا الي اليوم. وفي عام1961 أممت الحكومة المصرية الشركة التي ورثها ماكس وشقيقه عن والده, ولكن لم يسمح له بمغادرة البلاد حتي عام1963, حينما توجه الي باريس ليبدأ هناك حياة جديدة. ثروة من الصور والكتب تولد لدي ماكس عشقه لمصر منذ طفولته عندما كان ينصت باهتمام الي قصص جدته وخالاته عن مصر وتاريخها. وعندما تأممت شركة كركجي قام ماكس بتحويل هذه الفترة التي امضاها في مصر بلا عمل, والتي امتدت نحو عامين, الي طاقة ايجابية كما يقول صديقه عمرو طلعت; فلم يضمر للنظام المصري الجديد أي ضغائن, بل استفاد منها في اثراء معلوماته عن مصر التي أحبها; فكان يتوجه يوميا الي الارشيف القومي في القلعة ليقضي الساعات يقرأ الصحف الفرنسية والمجلات التي نشرت في القرن التاسع عشر, ومنذ ذلك الحين بدأ يبني موسوعة فكرية عن التاريخ المعماري لمدينة القاهرة, وهو التاريخ الذي اثار اعجاب كل من قرأ عنه. وعندما تمكن ماكس من السفر وأقام في باريس, قضي نحو نصف قرن يشتري ويجمع كل ما كان يتوصل اليه من كروت بوستال وكتب ووثائق وخرائط عن مصر; الي ان بات يملك إحدي اكبر المكتبات الخاصة واكثرها اكتمالا من الصور عن مصر خلال عصر محمد علي وعائلته من بعده. ويقول عمرو طلعت ان ما جعل تلك المكتبة الأفضل في العالم كله هو ماكس نفسه, والمعلومات التي كانت لديه وذاكرته التي تحمل الكثير من المعلومات عن شوارع القاهرة ومبانيها. فكان يتذكر كل ركن في كل شارع من شوارع القاهرة, خاصة وسط البلد, او كما يحلو للبعض أن يطلق عليها القاهرة الخديوية. وعندما تدخل منزله في بلدة فيتري تجد نفسك في متحف أثري, تحيط بك الصور والخرائط, التي تمتلئ بها الجدران في الادوار الثلاثة التي يتكون منها المنزل; ومكتبة كبيرة تزخر بكتب قديمة تحكي عن مصر تاريخيا وجغرافيا واجتماعيا. ولم يبخل ماكس علي كل من كان يبحث عن معلومات عن مصر في تصفح كتبه ودراسة خرائطه. قال أحد الاصدقاء في كلمته في تأبين ماكس: لقد تركنا ماكس أيتاما من كرمه الفكري ومن لطفه الذي بلا شائبة ومن حماسه المرح. فقد كان بيت ماكس مفتوحا لأي شخص يبحث عن معلومات عن مصر في هذا العصر, سواء كان باحثا او طالبا او مجرد شخص مهتم بالمعرفة; سواء كان مصريا او غير مصري. ولا يمل الزائر من الاستماع الي قصصه الي يرويها عن التاريخ من قصص العملات المالية وقيمتها وكيفية صكها. وقصص الشوارع والمباني القديمة, والشخصيات التي مرت بمصر في ذلك العهد البعيد القريب. او قصص مكان شهير مثل مقهي جروبي, الذي قال عنه ماكس انه منح القاهرة أجواء متميزة. كانت أيام بالاضافة الي مكتبته, قرر ماكس ان يقرب الكنز الذي يملكه الي طلاب العلم والبحث; فنقل ثروته سواء من الصور والخرائط او المعلومات التي يملكها الي كل باحث حيث هو وذلك من خلال موقع اليكتروني باللغات الفرنسية والانجليزية بعنوانwww.egyptedantan.comtn, في14 فبراير عام2005, ثم بالعربية تحت عنوانwww.kanetayam.com, والتي يستهلها بقوله شرفتونا وانستونا. هذه المواقع تقدم الصور النادرة التي اتخذت للعديد من المدن المصرية, من الاسكندرية وبورسعيد في الشمال وحتي اسوان في الجنوب, مرورا بكل المدن التي تقابلها علي الوادي, ومن السويس شرقا الي مرسي مطروح غربا. وليست فقط صورا شمسية ولكن ايضا لوحات زيتية رسمها كبار الفنانين. ذلك فضلا عن صور العائلة المالكة منذ حكم محمد علي, وافراد العائلة, ومعلومات عن كل منهم, ومعلومات عن الحكام منذ ان كان يطلق عليهم لقب واليا الي ان اصبح خديوي ثم سلطان ثم ملك اخيرا. من عباس حلمي الثاني وحتي الملك فاروق, مرورا بأفراد العائلة وعائلاتهم والاحداث والاحتفالات المختلفة التي تواجدوا فيها. كما نشر ماكس صورا عديدة لشخصيات كان لها اثرا في مصر في تلك الفترة سواء كانوا مصريين او غير مصريين; مثل الامبراطورة اوجيني في اثناء زيارتها لجامع الازهر في عام1903 وولي العهد الياباني هيروهيتو في زيارة لأبي الهول عام1921, وصورة لصفية هانم زغلول باشا بمناسبة زواج الملك فاروق من الملكة فريدة عام1939, وصور عديدة اخري. كما يظهر الموقع الحياة اليومية للمصريين في هذا العصر, سواء في الفلاحة او في مناسبات اجتماعية مختلفة مثل الزواج والمآتم.. والمهن المختلفة والملابس في ذلك العصر. وفي الموقع العربي يصحح ماكس وطلعت بعض المعلومات الخطأ التي تتداول, مثل انتحار ايفل من علي كوبري ابو العلا يوم افتتاحه, لان ايفل توفي بعد افتتاح الكوبري بنحو10 اعوام. ويقدم معلومات عن تاريخ النشيد الوطني الملكي وكيف انه لم يكن من تأليف الموسيقي العالمي فيردي, وكيف ان العلم القديم, اول علم حقيقي لمصر المستقلة في عام1923 وكيف ان النجوم الثلاثة التي تظهر وسط الهلال تعبر عن الديانات الثلاثة التي توجد في مصر الاسلام والمسيحية واليهودية, ويدعو ماكس قارئ الموقع الي اضافة تعليقات علي المعلومات التي تقدم. ويقدم الموقع العربي كل ما يهم قارئه العربي من شخصيات كان لها تأثير في هذه الفترة مثل فرديناند دوليسيبس مع زوجته وهما بالملابس البدوية, وحسين فخري باشا الذي تولي منصب وزير عدة مرات في القرن التاسع عشر; ذلك وبالاضافة الي الاعلانات التي كانت تقدم في الصحف, عن اتومبيلات واسبتالية والتمباك وتكنولوجيا أنتيكة... وكما ينشر افيشات أفلام زمان مثل أفلام الحب في خطر وأدم وحواء وفرجت. واحداث قديمة من خلال حصل زمان, وخرائط قديمة تحت عنوان الدفترخانة, وكتب في فهرس الكتبخانة في انتظار ملئها بالكتب التي تتحدث عن مصر. ثم اصدر ماكس كتابا بالاشتراك مع الكاتب الصحفي الفرنسي, روبير سوليه, بعنوان مصر امس بالالوان; وروبير سوليه ولد هو ايضا في مصر وعاش فيها حتي بداية سن الشباب. وفي هذا الكتاب اشترك كل من سوليه وكركجي في حبهما للبلاد, واصدرا كتابا جمعا فيها مجموعة من الصور بالالوان التقطت في بداية القرن العشرين, وتنشر لأول مرة. صور للقاهرة والاهرامات والنيل والاسكندريةوالسويس والسائحين الأولين. اصدقاء من كل مكان كان ماكس كركجي يسعي دائما من اجل المزيد من المعلومات, وكان يقوم بتبادل المعرفة مع اصدقائه. وكان حماسه يتيقظ عندما يعرض عليه احد اصدقائه معلومات جديدة وصورا عن مكان او مبني او شخصية; ويضيف عليها من المعلومات التي لديه. كتب لاحد اصدقائه في شهر يونيه الماضي يقول: يا صديقي العزيز, انني انتظر زيارتك منذ سنوات, والان وصلت لسن الشيخوخة, لذا حاول ان تأتي بسرعة قبل فوات الأوان. وجاءه صديقه قبل فوات الآوان. وقضي اربعة ايام في ضيافة كركجي في منزله في بلدة فيتري, كانا يتبادلان ما يعرفانه, كركجي يمنح الصور والكروت بوستال, وصديقه ينقل اليه ما يعرفه من قصص ومعلومات. كانا كما يقول ماكس: يشكلان فريقا فريدا, حول كل ما يتعلق بمصر القرنين التاسع عشر والعشرين, ما بين موقع كركجي وموقع صديقه سمير رأفتwww.egy.com ليكملا معا صورة حقيقية لعصر مضي. وعندما توفي ماكس كركجي في باريس في20 اغسطس الماضي, حضرت جنازته مجموعة كبيرة من الشخصيات والجنسيات المختلفة كلهم اصدقاؤه وكلهم يجمعهم معه حب مشترك, هو حبهم لمصر; وحرصت زوجته الفرنسية, ماجدلين, علي ان يجلس في الصفوف الأولي, المصريون الذين قدموا خصيصا من مصر ومن أماكن أخري في اوروبا ومن باريس, الي فيتري, لتقديم واجب العزاء والمشاركة في مراسم الجنازة والدفن, وصدحت الموسيقي بالسلام الملكي المصري الذي يستهل به موقعه علي الانترنت. وفي كلمات الاصدقاء, أكدوا جميعا ما قاله كركجي نفسه في الموقع الاليكتروني: لقد غادر مصر, ولكن مصر لم تغادره قط. واكد الاصدقاء في كلماتهم ان ماكس لن يغادرنا أبدا. الحفاظ علي الذاكرة والسؤال الذي يراود العديد من الناس الان هو: كيف يمكن الحفاظ علي هذا الكنز من الصور والخرائط؟ أين سيذهب بعد وفاة ابيه الروحي؟ والي اين ستئول تلك الذاكرة النادرة؟ قرر كركجي قبل وفاته ان يهدي مكتبته الزاخرة الي المكتبة الوطنية الفرنسية, حتي تصبح في متناول يد أي شخص يريد الاطلاع عليها, ولكن هل هناك جهة في مصر يمكن ان تشارك المكتبة الوطنية الفرنسية هذا الحق؟