استعرضت الأسبوع الماضي بشيء من التفصيل كيف أن اللائحة التنفيذية الجديدة لقانون مباشرة الحقوق السياسية- من وجهة النظر المعلوماتية- تقدمت خطوة وتجاهلت خمس خطوات . في طريق توظيف التكنولوجيا انتخابيا واستنادا لهذا التقصير المعلوماتي أري طعم ورائحة الداخلية واضحين بصورة جلية, ليس فيما جاءت به اللائحة ولكن فيما تركته, لأن بنود اللائحة تنشئ إطارا لإدارة وتوظيف المعلومات الانتخابية, يترك مساحات خالية عديدة يمكن أن تمرح فيها أطراف أخري غير اللجنة العليا, وهو هدف سعت إلي تحقيقه الإدارة العامة للانتخابات بالداخلية ورئيسها, وهذا يقودنا إلي القول بأن هذه اللائحة هي لائحة إهدار الفرص, وفتح الباب نحو إجراء انتخابات قديمة الملامح. لكي نتتبع الفرص المهدرة علي يد اللائحة, علينا أولا إلقاء نظرة سريعة مختصرة علي ما جاء بها, فمن مراجعة نص اللائحة يتضح أنها تنقسم إلي ثلاثة أبواب: الأول في شأن اللجنة العليا للانتخابات وأمانتها العامة واختصاصاتها ولجانها النوعية, واللجان الانتخابية العامة بالمحافظات واختصاصاتها, وهذه تغطيها المواد من الأولي إلي الرابعة, والباب الثاني يختص بإنشاء وتشغيل وتحديث وصيانة قاعدة بيانات الناخبين الرئيسية علي مستوي البلاد, وهذه تعالجها المواد من الخامسة إلي المادة الثانية والعشرين, والباب الثالث خاص بتنظيم عمليتي الاستفتاء والانتخاب اللتين تعالجهما المواد من الثالثة والعشرين إلي المادة السابعة والثلاثين, ولا يوجد في البابين الأول والثالث أية مواد تتعلق بالجوانب المعلوماتية للعملية الانتخابية إلا المادة الثلاثون والحادية والثلاثون اللتان تنصان صراحة علي أن التصويت في الانتخابات ورقيا بالكامل وعلي بطاقات مطبوعة, دون أدني إشارة إلي تغيير ذلك مستقبلا بأية صورة من الصور, والمادة الثانية والثلاثين في الباب الثاني التي تنص علي أن بطاقة الرقم القومي هي السند الوحيد لإثبات شخصية الناخب. في المقابل فإن العملية الانتخابية الكاملة تتضمن19 إجراء أو مرحلة هي كالتالي: 1- إعداد بيانات الناخبين ومحتوياتها وطريقة مراجعتها وتنقيتها وتحديثها, ومتابعة ذلك. 2- الطعون علي بيانات الناخبين. 3- تشكيل اللجان العامة للانتخابات واللجان الفرعية ولجان الاقتراع والفرز. 4- تحديد الدوائر الانتخابية وتعرف المواطن علي لجنته الانتخابية 5 تشكيل لجان تلقي طلبات الترشيح. 6- إعلان قوائم المرشحين النهائية ووضع القواعد المنظمة للدعاية الانتخابية 7- وضع وتطبيق نظام للرموز الانتخابية للأحزاب السياسية بالنسبة إلي مرشحيها وللمرشحين المستقلين. 8- تلقي البلاغات والشكاوي المتعلقة بوقوع مخالفات للأحكام المنظمة للعملية الانتخابية. 9- وضع القواعد المنظمة لمشاركة منظمات المجتمع المدني المصرية في متابعة العملية الانتخابية. 10- نقل لوازم التصويت إلي وجهتها النهائية. 11- تحديد هويات الناخبين والتحقق منها. 12 تسجيل الأصوات المدلي بها. 13- التعامل مع الناخبين أصحاب موطن انتخابي مخالف للجنة الاقتراع الوافدين والمقيمين بالخارج وينطبق هذا البند علي انتخابات المجالس النيابية فقط. 14 الإدلاء بالصوت الانتخابي. 15 عمليات تجميع صناديق اللجان الفرعية. 16 عمليات الفرز والإحصاء في اللجان العامة. 17- التدقيق والمراجعة في اللجان العامة. 18- إعلان النتيجة العامة للانتخابات وللاستفتاء. 19- مرحلة الطعون بعد انتهاء عمليات التصويت وإعلان النتائج. وإذا ما وضعنا ما جاء في اللائحة وجها لوجه أمام إجراءات ومراحل العملية الانتخابية- من منظور إنتاج وإدارة المعلومات وتوظيف التكنولوجيا انتخابيا- فسنكتشف علي الفور وبسهولة تامة أن الإجراء الوحيد الذي تغير جذريا من بين الإجراءات ال19 الخاصة بالعملية الانتخابية هو الإجراء المتعلق بإنتاج وتكوين معلومات الناخبين وطريقة التعامل معها وتحديثها, وفيما عدا ذلك لم تقترب يد اللائحة بالتطوير والتحديث لأي إجراء أو مرحلة من إجراءات ومراحل العملية الانتخابية الأخري, اللهم إلا المرحلة الحادية عشرة المتعلقة بتحديد هويات الناخبين والتي أصبحت تتم بموجب بطاقة الرقم القومي. هذا الوضع يجعل هناك العديد من الفرص الضائعة علي البلاد والناخبين والعملية الديمقراطية برمتها في الانتخابات المقبلة منها علي سبيل المثال لا الحصر: 1- خسرت البلاد فرصة تحقيق انسياب سهل وسريع للمعلومات الانتخابية بين مختلف الأطراف كل فيما يخصه, مما يرفع من كفاءة العملية الانتخابية وإجراءاتها ونزاهتها. 2- خسرت البلاد فرصة بناء نظام فعال وجديد للتوثيق الدقيق للأحداث الانتخابية والربط بينها وبين القائمين بها, بما يؤدي لتحقيق أكبر قدر من الشفافية قبل وأثناء وبعد الانتخابات, ويجعل من السهل رصد, وتتبع كل من يخل أو يضر بالعملية الانتخابية او يمارس أي شكل من أشكال التزوير والترويع في أي موقع أو لجنة. 3- خسرت البلاد فرصة الاعتماد علي الأساليب والتقنيات الحديثة في جمع ومعالجة البيانات وإنتاج المعلومات والمعارف المتعلقة بالدوائر وتقسيماتها وطرق العد والفرز والإحصاء وإعلان النتائج, وغياب هذه الفرصة جعل البلاد تقع مرة أخري كالثمرة الناضجة في قبضة ما تنتجه الإدارة العامة للانتخابات بوزارة الداخلية من معلومات وبيانات تشعل من الحرائق أكثر بكثير مما تحل من مشكلات أو تحقق من طموحات, ولعل تقسيم الدوائر الذي أعدته الإدارة نموذجا حيا علي ذلك. 4- خسرت البلاد فرصة تحديث نظام تشكيل لجان تلقي طلبات الترشيح ومراجعتها وإقرارها او رفضها, والغرق في الإجراءات الورقية المعتادة بما فيها من تعقيدات. 5- خسرت البلاد فرصة فتح الطريق نحو الوصول إلي نظم آلية محايدة وموثوق فيها لمعالجة قضية الرموز الانتخابية لتحديد رمز كل مرشح بشفافية ووضوح ومتابعة من قبل المرشحين ومندوبيهم وجماهيرهم. 6- خسرت البلاد فرصة بناء نظام معلومات مستديم وفعال لتنظيم أعمال الرقابة أو المتابعة للانتخابات من قبل منظمات المجتمع المدني المصرية والدولية بصورة حضارية موثقة تسمح بالتسجيل المسبق المنظم لأعضاء هذه المنظمات وأماكن عملهم. نحن إذن أمام لائحة تقودنا إلي انتخابات قديمة الملامح بالأساس, علي الرغم من أن المواد الجديدة في القانون أرست- كما سبق القول الأسبوع الماضي- أسسا ومباديء جديدة كانت ولا تزال تسمح بتغيير الوجه القديم للانتخابات برمته, وليس الإجراءين الأول والحادي عشر فقط. ومن الأمور الواجب توضيحها في هذه النقطة أن السيناريو السابق الذي جاءت به اللائحة يكاد يتطابق مع ما دأبت الإدارة العامة للانتخابات بوزارة الداخلية ومديرها علي طرحه طوال الشهور الماضية بعد الثورة, من أن أحوال البلاد والعباد لا تسمح بأكثر من ذلك, وهو قول مغلوط يختلط فيه الجهل مع الهوي, وجعلني أقول في البداية أن اللائحة بصورتها التي أتت بها يطغي فيها طعم ورائحة الداخلية علي طعم ورائحة الثورة والقضاء, وذلك علي صعيد الفكر والفلسفة والأفق, وليس من زاوية من يشرف علي من. لقد عكس انتصار فكر الداخلية نفسه علي العديد من الوقائع علي الأرض في اللجنة العليا للانتخابات, فرئيس الإدارة العامة للانتخابات بالوزارة عضو في الأمانة العامة للجنة العليا للانتخابات وعضو لجنة الإشراف علي جداول الانتخابات من واقع قاعدة بيانات الرقم القومي ومراجعتها وتحديثها, وعضو لجنة وضع وتطبيق نظام الرموز الانتخابية, وعضو لجنة وضع القواعد المنظمة لمشاركة منظمات المجتمع المدني المصرية والدولية لمتابعة كافة العمليات الانتخابية, وعضو لجنة وضع القواعد المنظمة للدعاية الانتخابية, وبالإضافة لذلك فإن لجان الفصل في الطلبات الخاصة بالقيد بقاعدة بيانات الناخبين يعمل بها28 ضابطا بالداخلية من رتبتي العميد والعقيد, كأمناء فنيين لجميع هذه اللجان علي مستوي الجمهورية, وذلك طبقا لقرار رئيس اللجنة العليا للانتخابات رقم9 لسنة.2011 والحقيقة لا أعرف علي وجه الدقة ما هي الخبرات النادرة وغير المتاحة التي يتمتع بها مدير الإدارة العامة للانتخابات لكي يكون هو الجوكر في أربعة من ست لجان نوعية شكلتها اللجنة العليا للانتخابات, وما هي الأمور الفنية التي تجعل هناك حاجة لإدخال28 ضابطا للمشاركة في الفصل في الطلبات الخاصة بالقيد, بل نحن في هذه الحالة أمام تساؤل: ما هو الداعي لتشكيل هذه اللجنة أصلا إذا كانت عملية القيد قد حسمت سلفا وبصورة واضحة حينما نص القانون علي أن تكون قاعدة بيانات الرقم القومي هي مصدر البيانات التي تتم علي أساسها عملية القيد؟. هذه الملابسات جميعا تدفعنا إلي القول أن انتصار فكر وفلسفة الإدارة العامة للانتخابات ومديرها بوزارة الداخلية علي فكر الثورة وخبراء وزارة الاتصالات وممثليها في الأمانة العامة الدائمة اللجنة العليا, قد عرقل طموح التغيير والتحديث واحتجزه عند الإجراءين اليتيمين السابق الإشارة إليهما, وأغلب الظن أنه لو كان الأمر بيد إدارة الانتخابات ومديرها لعادت بالعجلة كلها للوراء, غير عابئة بدماء من استشهدوا في الشوارع برصاص الداخلية نفسها, لتمارس هوايتها في التلذذ بالعبث بالانتخابات وإرادة الشعب, كما كانت تفعل طوال السنوات الماضية. إن انتصار فكر الداخلية في هذه اللائحة كان يحتم علي المهندس ياسر القاضي رئيس هيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات ونائبه الدكتور شريف هاشم- ممثلا وزارة الاتصالات في الأمانة العامة الدائمة للجنة العليا للانتخابات- الاعتراض علنا علي هذا التقزيم الواضح للفكر الإصلاحي في اللائحة, وعلي استئساد فكر الإدارة العامة للانتخابات المرفوض شعبيا وتمتعه بكل هذه السطوة العاتية, ولا عذر لهما في عدم الاعتراض تحت أي ظرف, فهذه أمانة وطنية في أعناقهما كان يتعين عليهما الاستماتة في الدفاع عنها ولو بالاستقالة من الأمانة العامة للجنة العليا للانتخابات, وهذا أضعف الإيمان.