يزخر الفضاء السياسي في مصر هذه الأيام بالدعوة إلي التغيير الدستوري وهو دليل علي حيوية المجتمع السياسي من ناحية, وعلي حرية التعبير التي تسمح لصاحب كل رأي بالترويج والدفاع عن وجهة نظره من ناحية ثانية. , وهي نموذج للحوار والاختلاف بين جماعة المثقفين حول شكل المستقبل لبلادنا. وهذا الحوار في النهاية وبغض النظر عن اية تفاصيل هو أمر ايجابي وعلامة ممارسة ديمقراطية. علي أن هذا الحوار يتسم في كثير من الأحيان بنزعة مثالية تبحث عن الحل الأفضل بشكل مطلق, وتقترحه حلا للمشكلة التي تواجهها مصر في هذا المجال أو ذاك. فتدعو إلي أفضل أشكال نظم النظام التعليمي الأفضل, وتدعو إلي أكثر النظم القانونية ضمانا لحقوق الإنسان, وتقترح أفضل نظم التأمين الصحي... وهذه الاقتراحات تنبع من رغبة نبيلة للارتقاء بأوضاعنا العامة, ولكنها تبقي نظرية ما لم تأخذ في اعتبارها حقائق التاريخ والاقتصاد والاجتماع, لأن نجاح تطبيقها يتطلب وجود البيئة المواتية والموارد اللازمة, وإلا تحولت هذه الأفكار النبيلة إلي كوابيس مزعجة. فالديمقراطية علي سبيل المثال تطورت عبر مسيرة تاريخية طويلة, وأمريكا التي يرأسها اليوم أمريكي من أصول سوداء لم تكن تسمح بالمساواة بين البيض والسود أو بالاختلاط بينهما في أغلب المرافق العامة من خمسين سنة مضت. ويقال للرد علي الداعين للتغيير من خلال التدرج أن مصر لها تاريخ دستوري وديمقراطي عريق يعود إلي صدور أول دستور عام1866, وأن مرحلة الحكم البرلماني خلال الفترة1923 1952 كانت مرحلة ناصعة من الممارسة الديمقراطية والبرلمانية. والحقيقة, أن هذه صورة مثالية لا يدعمها التاريخ, والسمة الرئيسية لتطور نظام الحكم في مصر خلال هذه الفترة وفي أغلب سنوات القرن العشرين هي عدم الاستقرار السياسي. فإذا أخذنا عنصر الدستور فسوف نجد أن أول دستور للمملكة المصرية وهو دستور1923 استمر العمل به لمدة خمس سنوات فقط, ثم تم تعطيله ثم الغاؤه تماما وصدر دستور1930 الذي حكم البلاد حتي عام1935 وعودة العمل بالدستور الأصلي. واستمرت سمة عدم الاستقرار الدستوري في المرحلة التالية علي ثورة1952 فشهدت الفترة1952 1970 خمسة دساتير واعلانات دستورية وهي: الاعلان الدستوري لعام1953, ودستور الجمهورية المصرية لعام1956, ودستور الجمهورية المتحدة لعام1958, والاعلان الدستوري لعام1962, ودستور1964, والتعديلات الدستورية لعام.1969 وأتي دستور1971 ليصبح أطول الدساتير التي حكمت مصر من الناحية الزمنية. وإذا أخذنا عنصر الانتخابات والمجالس التشريعية تبرز أيضا سمة عدم الاستقرار فخلال الفترة1923 1952 فإن جميع مجالس النواب تم حلها بمراسيم ملكية قبل انتهاء مدتها ما عدا مجلسا واحدا وهو مجلس1945 1950 ولم يحكم حزب الأغلبية الشعبية وهو الوفد إلا ست سنوات ونصف السنة منها أقل من3 سنوات منفردا والباقي في حكومات ائتلافية, بينما حكم مصر أغلب سنوات هذه الفترة حكومات أحزاب الأقلية التي وصلت إلي السلطة بتزوير الانتخابات بسند من القصر والانجليز, وهكذا, فإن معالم الصورة السياسية قبل عام1952 تمثلت في عدم تمكن حزب الأغلبية من ممارسة الحكم وتعطيل الارادة الشعبية, وعدم الاستقرار الوزاري, وحل مجالس النواب قبل استكمال مدتها. وفي الفترة1952 1970 عاشت مصر بدون برلمان لمدة8 سنوات ولم يكمل أي برلمان مدته الدستورية. أما بخصوص السلطة التنفيذية فقد اتسمت أيضا بحالة من عدم الاستقرار الوزاري فشهدت مصر خلال الفترة1923 1952 عدد أربعين تشكيلا وزاريا بحيث كان متوسط عمر الوزارة تسعة أشهر فقط. واستمرت هذه الصفة بعد الثورة, فشهدت فترة1952 1970 عدد18 تشكيلا وزاريا وكان متوسط عمر الوزارة14 شهرا, وشهدت فترة الرئيس السادات1970 1981 عدد16 تشكيلا وزاريا وكان متوسط عمر الوزارة17 شهرا, ولم يحدث قبل1952 أو بعدها أن استقالت وزارة لعدم حصولها علي ثقة البرلمان أو نتيجة سحب الثقة بها. وانني أترك للقاريء الكريم أن يستنتج ماهية التقاليد السياسية والدستورية التي رسخت نتيجة لهذا التاريخ في ممارسات أجهزة الدولة والادارة, وفي وعي المواطنين بالسياسة والمشاركة الانتخابية وعضوية الأحزاب, والعلاقة بين المواطن والحكومة. وتمثل نتائج هذا التاريخ عقبة أمام التطور الديمقراطي في بلادنا علينا أن نتعامل معها بحكمة لتغييرها وتجاوزها, ولا يتحقق ذلك بتبادل الاتهامات أو بطرح الرؤي المثالية, فالديمقراطية ليست عملا يختص به المثقفون وعلية القوم, بل إن قوامها ملايين البشر من المواطنين البسطاء, ويتطلب تجاوز هذا الوضع تغييرا في التوازن الاجتماعي القائم وفي الثقافة السياسية السائدة وفي منظومة التشريعات والقوانين. فالتغيير السياسي يتحقق بتبني قوي اجتماعية لسياسات وأفكار تعتقد أنها تحقق مصالحها, وطالما لم يحدث ذلك تظل الفكرة مهما كانت عظمتها ومثاليتها معلقة في الهواء ومتداولة بين المثقفين فقط. ومؤدي ذلك أن الدعوة إلي التغيير تكون أكثر جدوي إذا بدأت من أرض الواقع ومن الاقرار بأن المجتمع المصري يشهد تغيرات وتحولات عميقة في تكوينه وتطلعاته واعادة ترتيب لأوضاعه, وأن تلك التغيرات والتحولات تطرح تداعيات ايجابية وسلبية علي حد سواء. وتكون أكثر جدوي إذا بدأت بالإقرار بأن هناك مجموعة من السياسات والتوجهات التي اعتمدت من عام2002 في المؤتمر العام الثامن للحزب الوطني وتبنتها الحكومة وأنها أحدثت تغيرات مهمة في معدل النمو الاقتصادي وفي مضمون السياسات العامة وكيفية تنفيذها, وهذا الاقرار لا ينفي حق الآخرين في تقييم تلك التوجهات ونقدها وعرض بدائل لها. والحقيقة أن حظ هذه السياسات من الفعالية في التنفيذ أختلف من مجال لآخر, فلا يمكن أن نضع النجاح الذي تحقق في مجال الاستثمار والسياسة البنكية والمالية علي نفس المستوي بالقصور في مجال سياسة تنظيم الأسرة. وكان من شأن تلك التوجهات والسياسات أن أوجدت حالة من التغيير والحراك في المجتمع, فغير صحيح أن مصر مجتمع راكد أو جامد بل هي مجتمع فتي شاب تموج أحشاؤه بقوي التغيير المتأثرة بالسياسات الجديدة, وكذا بتيارات العولمة والعالم الجديد الذي نعيش فيه ولا يمكن لأحد أن يعترض مسيرة قطار التغيير الذي غادر مخدعه.. تتسارع حركته أحيانا وتتباطأ أحيانا أخري بحكم البيئة الداخلية والخارجية. وذلك لأن الإدارة الناجحة لعملية التغيير تحتاج إلي حساب للتوازنات السياسية والاجتماعية القائمة حتي تكتمل بشكل سلمي وتطوري, وتحتاج إلي ادارة للمعضلات العميقة التي تواجه المجتمع مثل العلاقة بين الدولة والمجتمع, وبين الدولة والمؤسسات الدينية, وبين المواطن والحكومة وهي علاقات يوجد ارث بشأنها لا يخدم دائما قضية التطور الديمقراطي. وهناك حسابات أخري تتصل بالعلاقة بين الديمقراطية والعدل الاجتماعي في بلد فقير لا يمكن لأي دعوة للتغيير أن تتجاهلها, فبدون العدل الاجتماعي لن يكون هناك استقرار أو ديمقراطية, وهناك حسابات تتعلق بما يحدث في البلاد المحيطة بنا في المنطقة العربية والاقليم وهو في مجمله لا يبشر بخير أو أمن. والتغيير مستمر ولا يمكن إيقافه.. وحديث التغيير ذو شجون. المزيد من مقالات د. علي الدين هلال