الورود الشابة تفصح عن عطرها وتنشر رحيقها في كل مكان, وكل ما حولنا الآن يزينه نبض الشباب وحيويته وتجدده وانطلاقه. إنه جيل الشباب الذي صنع الثورة التي التفت من حولها جموع المواطنين, وهو جيل المبدعين الجدد الذي تنتمي إليه مي أبوسنة, التي تحول خطواتها الأولي إلي مجموعة من القصص القصيرة تحمل هذا العوان الشديد الإشراف والتفاؤل والرؤية الشابة الحياة حلوة. وبعيدا عن اللبس, لابد من أن أوضح منذ البداية أن مي أبوسنة هي ابنة الشاعر الكبير محمد ابراهيم أبوسنة ابنة الباحثة والأستاذة الجامعية الدكتورة زينب أبوسنة أستاذة اللغة التركية في كلية الآداب بجامعة القاهرة. هي إذن تملؤها جينات الإبداع, وتخطو خواتها الأولي في ثقة وتصميم, ومعها مشروعها الخاص أن يكون لاسمها وجوده الخاص والمتميز متحررة من الفضاء الذي يشغله اسمان كبيران من حولها لوالديها اللذين سبقاها في مضمار الشهرة والتحقق. بعيدا عن هذا الاعتبار, تفصح المجموعة القصصية عن موهبة حقيقية, لا تدين فقط لجينات الأسرة, بقدر ما تدين لتكوينها هي, وثقافتها التي اصطنعتها لنفسها, ومزاجها النفس الخاص الذي يجعلها بعيدة عن السرية لتصنع عالمها المستقل, ورؤيتها الخاصة, ولترسم نماذجها وشخوصها من مختزنات الذاكرة حيا, والمنتزعة من الواقع الذي يموج بالحياة من حولها حينا آخر. من هنا, فإن اللحظة القصصية عند مي لحظة مناسبة ومفاجئة, لأنها تكتب بلغة شديدة الرقة والنعومة, ليس فيها تعقيدات أو تشابكات, كتباتها تشبه ماء النهر المنساب في هدوء, وفجأة تصحو علي منطقة السخونة القصصية التي نجحت في جذبنا إليها دون أن ندري وعلي حين غرة. تقول مي في سطور دالة علي هذا الأسلوب الشبابي المفعم بالحيوية والقدرة علي التأمل: التفتت لتأكد انها ليست تحت تأثير أحلام اليقطة, إنه صوته, إنها متأكدة. فرغم مرور السنوات العشر إلا أنها لم تستطع أن تنسي صوته, لكن شكله قد تغير كثيرا, كان مولعا بممارسة الرياضة, طويلا ممشوق القوام, يهيأ لها الآن أنه أصبح أقصر مما كان, ربما بسبب بدانته الملحوظة. وشعره, تغيرا كثيرا, تساقط معظمه ولم يبق منه سوي القليل الذي تتناثر فيه شعرات بيض تزيد عمره بأكثر من عشرة أعوام ربما لو لم تكن متأكدة من صوته لغفلت عنه بالتأكيد, وأنه بصحبة امرأة ومعهما ثلاثة أبناء صغار, مر جوارها دون أن يلحظها. لا تحلق مي أبوسنة بعيدا عن واقع الحياة التي نعيشها, إنها تندس في أجواء البيت المصري, بكل ما تمتلكه من حي الالتقاط الذكي للمواقف والأحداث الجريئة الصغيرة, وتصنع منها بطريقة مدهشة أركان عالمها المتماسك لتعطيها دلالتها ومعناها, ولتبشرنا في جراثيم قصصها الحياتية والمفعمة بالطيبة بالأمل في الغد وبالإشراقة التي ستجيء وتعقب هذا الليل وهذه الظلمة, حتي تغادر هذا العالم القصصي الذي نسجته في يسر وبراعة وتلقائية, ونحن نردد عنوانها علي المجموعة الحياة حلوة. تقول مي أبوسنة في ختام القصة التي جعلت مي اسمها عنوانا للمجموعة وهي تتحدث عن بطلها الذي تشرب حكمة الحياة وهو يحاور الآخر الكبير السن وهو في هذه الحالة يكون شيخا لا عجوزا, لأن العجوز صفة للمرأة لا للرجل تقول لمح من النافذة اسم المحطة فاكتشف أنه قد نسي النزول قبل محطتين هذه المرة, ابتسم, قرر لأول مرة أن يأخذ الأمر بسخرية, قال في نفسه: ما دمت سأحصل علي خصم علي أي حال فلا داعي للغضب, سأعود للمنزل وأحصل علي هذا اليوم كإجازة, فأنا متعب بحق وأحتاج للراحة والابتعاد عن التفكير في المشكلات ولو قليلا, ولم لا؟ فلأجرب أن أستمتع بالحياة وأترك المشكلات, فالله قادر علي حل كل شيء. نزل من المترو وبحث عن طريق العودة إلي المنزل, أخذ نفسا عميقا وتساءل: هل يمكن أن تكون الحياة حلوة حقا؟ ربما؟. العالم الذي تتحرك فيه وبين شخوضه مي أبوسنة عالم خال من العنف والقسوة والوحشية, التي نجد كثيرا من مشاهدها وشواهدها في كتابات عدد كبير من أبناء وبنات جيلها ربما لأن تكوينها الخاص البعيد عن هذه الجوانب الصادقة من حياة المجتمع, ضمن لها أن تعيش حياة العصفورة الطليقة المزقزقة, تحلق في البعيد, وتحرص علي عدم الارتباط بالقبح في صوره البشعة والمتكررة, ليظل عالمها يعيش حالة النقاء والصفاء والتواصل الإنساني, أو علي الأقل يسعي إلي تحقيقها إن كان يفتقدها, دون أن يفقد انسانيته أو براءته الأولي. وأقول للكتابة لاشابة لابد أنه سيجيء وقت تحتاج فيه العصفورة إلي بعض ما تمتلكه الطيور المقاتلة من حدة وأظافر ومناقير وستجد هي بعد قليل أنه كلما ازدادت علاقتها للكاتبة الشابة والكتابة القصصية علي وجه الخصوص اكتشفت أن الكتابة الجادة تتطلب قدرا لازما من الشراسة, والتسلح بكل ما يساعد المبدع أو المبدعة علي اجتياز هذا البرزخ بين النعومة والشدة بين البراءة الشديدة والمكر الفني, بين الخيال المحلق والواقع المشحون بالكثير. وأقول لمي: هذه الخطوات الأولي تبشر بخطوات قادمة أشد رسوخا وأمضي عزيمة وأكثر احتشادا لرسالة الكتابة. وفي يدك وحدك إضفاء المزيد من الجدية والالتزام والمسئولية علي هذه الكتابات. لتصبح جزءا من شهادة جيلك جيل ثورة الشباب علي المرحلة التي نعيشها, والمستقبل الذي نحلم بتحقيقه. المزيد من مقالات فاروق شوشة