تعرف على اختصاصات الهيئة الوطنية للانتخابات    ميتا تعتزم زيادة استثماراتها في الذكاء الاصطناعي بعدما فاقت نتائج الربع الثاني التوقعات    روسيا تعلن السيطرة على بلدة شازوف يار شرقي أوكرانيا    موعد مباراة آرسنال وتوتنهام والقنوات الناقلة    دون إصابات.. خروج قطار عن القضبان بعد الاصطدام برصيف محطة السنطة بالغربية    طقس اليوم الخميس 31-7-2025.. انخفاض درجات الحرارة واضطراب بالملاحة    المهرجان القومي للمسرح يكرّم الناقدين أحمد هاشم ويوسف مسلم    أستراليا وبريطانيا تدعوان لوقف إطلاق النار في غزة وتشددان على حل الدولتين    أسعار الدولار اليوم الخميس 31 يوليو 2025 بعد تثبيت الفائدة الأمريكية    اليوم.. المصري يلاقي هلال مساكن في ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    ارتفاع أسعار الذهب الفورية اليوم الخميس 31-7-2025    فورد تتوقع خسائر بقيمة ملياري دولار هذا العام نتيجة رسوم ترامب    هاريس ستدلي بشهادتها في الكونجرس بشأن الحالة العقلية لبايدن والعفو عن 2500 شخص    أمير غزة الصغير.. قصّة طفل قبّل يد من قدم له الطعام وقتله الجيش الإسرائيلي بدم بارد    إصابة 4 أشخاص في حادث انقلاب سيارة بشمال سيناء    20 شاحنة مساعدات إماراتية تستعد للدخول إلى قطاع غزة    ملعب الإسكندرية يتحول إلى منصة فنية ضمن فعاليات "صيف الأوبرا 2025"    دعمًا لمرشح «الجبهة الوطنية».. مؤتمر حاشد للسيدات بالقليوبية    معتقل من ذوي الهمم يقود "الإخوان".. داخلية السيسي تقتل فريد شلبي المعلم بالأزهر بمقر أمني بكفر الشيخ    الرئيس الفلسطيني يرحب ب"الموقف التاريخي والشجاع" لكندا    "ابن العبري".. راهب عبر العصور وخلّد اسمه في اللاهوت والفلسفة والطب    قناة السويس حكاية وطنl القناة الجديدة.. 10 سنوات من التحدى والإنجاز    قناة السويس حكاية وطن l حُفرت بأيادٍ مصرية وسُرقت ب«امتياز فرنسى»    الطب الشرعى يحل لغز وفاة أب وابنائه الستة فى المنيا.. تفاصيل    مواعيد مباريات اليوم الخميس 31 يوليو 2025 والقنوات الناقلة    نحن ضحايا «عك»    سلاح النفط العربي    الأحكام والحدود وتفاعلها سياسيًا (2)    «النفط ولع».. ارتفاع هائل في أسعار الذهب الأسود اليوم الخميس 31 يوليو 2025 (تفاصيل)    طريقة عمل سلطة الفتوش على الطريقة الأصلية    المهرجان القومي للمسرح يحتفي بالفائزين في مسابقة التأليف المسرحي    بينهم طفل.. إصابة 4 أشخاص في حادث تصادم بطريق فايد بالإسماعيلية (أسماء)    رامي رضوان ودنيا سمير غانم وابنتهما كايلا يتألقون بالعرض الخاص ل «روكي الغلابة»    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خيري شلبي‏..‏
نعناع جناين الأدب

فضلت سنين ماشية أقول لكل من له تذوق في الأدب واستعذاب الكلمة الحلوة واللفظة المعطاءة وعشق متعة الترويح عن النفس‏,‏ وتمشيط العقل بين سطور الإبداع‏:‏ إذا لم تكن قد قرأت لهذاالأديب فقد فاتك نصف عمرك‏..‏ فاتك الكثير والمثير والجدير والقدير والأثير والوفير.. ولو كنت أوروبية المحتد لخلعت له القبعة تقديرا.. ولو كنت يابانية المنبت لانحنيت أمامه مرات ومرات إعجابا وتحية.. ولو كان جدي مهاتما نشأ وترعرع في دلهي أو كلكتا للصقت علي الجبين حسنة حمراء وضممت يدي خارج الساري لأحيي صاحب الندرة علي الطريقة الهندية.. ولو.. ولو.. إلا أنني مصرية مثله, ابنة النيل الذي شربناه سويا بطينه وعبله وقواقعه ومنقوع بردياته وقصب سكره لا أجد علي لساني له الآن قولا سوي رحمة الله عليك يا وتد الرواية المصرية, يا شاطر الشطار, يا مزوج الواقع بالخيال, يا ماسك في أدبك بزمام الزمان والمكان, يا لغة منسجمة مع الأحداث, يا مؤلف شخوص لا تنحبس بين ضفتي كتاب, يا مقلب في أفئدتنا المواجع بقصص من لحم ودم كتبتها بلغة البسطاء والغرباء والفقراء والمهزومين والمهمشين, يا موظف الأسطورة وسيد الحكاية الشعبية, يا روح الموال الكامنة, يا كاتب التاريخ السري لمصر, يا صاحب السبعين كتابا رواية ومسرحا ودراسة, يا نعناع جناين الأدب, يا عاشق البشر, وخالق التفاصيل الصغيرة, وفنان البورتريه بالكلم والقلم, يا ناسج شبكة المفردات المعبرة وراصد الخارج والداخل معا, يا من عشت لتحكي يا حكاء الأدب, يا من عرق واستغرق في كواليس الحياة نجارا وحدادا وسمكريا وترزيا ومكوجيا وبائعا سريحا وعامل تراحيل, يا متسع الرؤية والعبارة, يا راصد أعيان مصر وفلاح قرية شباس عمير بمحافظة كفرالشيخ وسليل السير الشعبية العربية, يا من نطلب له الرحمة ولنا الصبر والسلوان من بعد فقدك يا صاحب كتاب فن الألم تقليب المواجع الذي تري فيه أن الألم أنجح جسر للتواصل الإنساني, وأكثر وسيلة لإثارة الغضب النبيل.
الراحل العزيز.. خيري شلبي.. نوع جديد من التعبير بالكلمة التي نتداولها بالبلدي والدارج والعامية, لكنها لديه أدبية صرف وبالنحوي ولغة الضاد.. عرس القلم والورق الذي تغرد فيه زغرودة الحارة ويصرخ فيه علي عربجي الكارو كرباج ورا يا اسطي, وتصخب أفراحه بشخللة الصاجات ويطرقع بين جنباته اللبان البلدي, ويزعق فيه صالح هيصة في غرزة حكيم في حي معروف بوسط البلد: ربنا خلق الدنيا هيصة! وخلق فيها بني آدم هيصة! كل واحد في هيصة!.. بيعمل هيصة! عشان يلحق الهيصة ويا يلحق يا ميلحقش!.. وكلهم كحيانين!.. بس كل واحد كحيان بطريقة!.. وأنا.. ملك الكحيانين!.. عشان كحيان بكل الطرق... صنف من أدب لم نتذوقه من قبل, وعندما أتي إلينا متواضعا علي استحياء أزحنا بلا ندم ولا أسف ما اعتدنا علي تناوله بحكم العادة والمتاح, لننهل مذاقا شهي النضج محبشا بالبهارات والمستكة وورق اللورا.. نهلنا وكنا نظن في وجباتنا شبع ما طاب ولذ بحبهان التراكيب وشطة سرد تؤجج ولا تلهب, تسيل اللعاب ولا ترفع الضغط, تنشط الذهن ولا تخشب الأوصال, يعي صانعها مقادير محسومة ومحسوبة تزيد من حبكة النكهة الفريدة.
شلبي يصحبنا للحارات.. يدهلزنا إلي مخابئ مطاريد بطن الجبل.. ينفذ بنا في التحام الخلق في حواري كد البشر, فلا نضيق بالاختناق ولا ينفذ لأنوفنا خلال كشفه سوي عبق الطلاوة ونسيم الاطلاع, ولا نري في سقوط قشرة الزيف معه سوي الأصالة والصراحة وقوة الإقناع.. نصدقه.. والصدق في الأديب تاجه, يعري نفسه في سبيل الفن فنعشق معه سمو الفقر ونتنزه بين قهر السطور في جنة الإملاق.. نمتلئ هنيئا مريئا مع فصوله بكسرة عيش ناشف وقرص طعمية زهد الفول فيه من سوسه فانتحر في القطران, ونصاحبه بمشاعر المليونير إذا ما جاد عليه جواد بما فيه القسمة.. خيري شلبي الذي لم يستطع الاختلاء بأوراقه وسط ضجيج العاصمة فبحث عن صومعة الهدوء ليجدها بالدراسة في مقبرة بمنطقة صحراء المماليك استأجرها ليكتب فيها أهم أعماله ملحمة الشطار وموال البيات والنوم وغيرها.. حيث كان يري أنه لا يوجد إنجاز حقيقي دون عزلة, وفي ذلك كان إعجابه الكبير بتجربة كل من جمال حمدان صاحب ثلاثية شخصية مصر والشاعر فؤاد حداد اللذين ابتعدا عن الشهرة الرخيصة وسوق الادعاء وماكينة الإعلام والأحزاب والتجمعات والشلل فشيدا وأنجزا في عزلتهما صرح عظمتهما.
الروائي المصري التليد القادم من الريف في الثانية عشرة للالتحاق بمعهد المعلمين بدمنهور من بعد الابتدائية الذي جلس علي شط ترعة المحمودية يغسل غياره الوحيد لينشره حتي تجففه الشمس فوق قادوس الساقية, فضبطه زملاء المعهد أبناء المدينة أصحاب الأحذية اللامعة عاريا علي الجسر فنالوا منه سخرية وازدراء, فما كان من ابن الحفاة العراة في نظرهم الذي نكب بهم الدكتور طه حسين التعليم عندما أقره مجانيا كالماء والهواء إلا أن ارتدي أسماله تقطر ماء ليمضي هائما علي قدميه أياما حتي تقوده خطاه الواهية للإسكندرية بائعا سريحا لزهرة الغسيل علي زبائن المقاهي تاركا في دمنهور القاسية كل متاعه: الصندوق الخشب, والمخدة الخيش, وبطانية صوف العسكري.
الروائي الكبير بشعاره أن تعيش لتحكي كان يري السيرة الذاتية لابد وأن يكتبها صاحبها بقلمه لكي تسمي سيرة ذاتية, فالكثير من المثقفين يخلطون بين السيرة الذاتية والسيرة التاريخية أو الترجمة.. والسيرة الذاتية هي فن البوح, والفضفضة والشفافية, ومراجعة النفس, وحساب ما تبقي من الأرصدة, ومحاولة الوقوف علي المكسب والخسارة في رحلة حياة استغرقت عمر الحيوية في بدن الإنسان.. وفن البوح والتجرد من الأهواء الشخصية هو خير علاج للنفوس, سواء للبواح صاحبها وللمتلقي قارئها حيث يتبادلان الأمكنة, فأثناء القراءة ينفعل المتلقي بما وصله فتسقط الفواصل, حتي قد يشعر القارئ بأن الكاتب كان يتجسس عليه هو, يترصد حياته هو, وكلما تشابهت الأحداث والأيام والمواقف ترادفت المشاعر وتماهت النفس مع النفس.. إذن فإنه غسيل النفس.. البواح يغسل بالبوح نفسه, والقارئ يغسل بالقراءة نفسه فتطيب جروحه, وكم من أفعال فرض علي المرء أن يفعلها رغما عنه ويظل طول عمره يحاول التخفف من وطأة وزرها وإحساسه بالذنب لاقترافها, إلي أن يقرأ في إحدي السير الذاتية مثيلا لها مر بها من هو أقدر منه فهما وأوسع تجربة وأعمق إدراكا للأمور فيفهم عنه.. يضع يده علي الحقيقة فيتحقق له الشفاء وتصفو نفسه ويغدو إنسانا سويا.. وللأسف إن كتابنا القدامي والمحدثين حرصوا علي أن يقدموا الصورة المثالية عن حياتهم.. الصورة التي يحبها الناس, كما نجد في المنقذ من الضلال للإمام الغزالي, ولطائف المنن للشعراني, وصولا إلي عصفور من الشرق للحكيم, ولم يشذ عن القاعدة بعض الشيء إلا طه حسين في الأيام... وحتي سهيل إدريس عندما اعترف أنه كان له في المثالية في صدر شبابه أصبحت فضيحته بجلاجل!!
صديقي وكاتبي ومحط إعجابي فارس الرواية العربية المعاصرة الذي جلس هذا الأسبوع يكتب فمات.. انحني برأسه فوق القلم فاختنقت العبارات لتسقط العبرات حزنا علي فراقه.. خيري شلبي شكوت يوما قلمي إليه.. قسوته. سطوته. أنانيته. لهوه بي وبحالي. إصابتي منه بمرض عضال أعراضه مماثلة للخبال فساعة يرضي عني أطير مع السحاب, وساعة يخاصمني ويمزق الورق أغدو مهجورة جدباء في أسوأ حال.. ضحك مني ابن شلبي قائلا: كلنا يا صاحبتي في الهم سواء.. كلنا أصحاب هذا المرض, فأنا علي سبيل المثال مع كل عمل جديد أصاب بآلام مفاجئة وكآبة شديدة, وتسود الدنيا في عيني إلي حد الرغبة في الانتحار, وأشعر بعدم التوافق مع شيء, لا مع نفسي, ولا مع المجتمع, ولا مع الكون بأكمله, وهذا الإحساس يكون مصحوبا برغبة شديدة في النوم والهرب من الحياة.. وتتكرر هذه الأعراض مع كل عمل جديد.. وغالبا ما تنتهي هذه الحالة المرضية بكتابة صفحة واحدة تفتح لي باب عالم فسيح يحررني لتتغير حالتي النفسية.. ولا أحظي بالشفاء التام إلا عندما أكتب تحت آخر سطور العمل كلمة انتهي.. وما دمت قد كتبت المسودة فلا أرق ولا قلق عندي بعدها من مهمة تبييض ما كتبت ولو عشر مرات مختزلا أو مضيفا للسطور, حتي أنني أعدت تبييض رواية الأوباش45 مرة لينقذها من بين يدي الناقد إبراهيم منصور الذي سرقها مني ثم أعادها بشرط أن أبعث بها مباشرة إلي المطبعة.... وأعود لأستظل بتجربة خيري شلبي حول أوان إبداعه.. ليلا أم نهارا؟!!.. فأجابني ساهر الليالي ساحر البيان صاحب موال البيات والنوم: في الجزء الأول من الليل أنشغل بالقراءة أو بترتيب الأفكار في ذهني حتي وأنا جالس في المقهي بين الأصدقاء الذين يتخيلون أنني بينهم بينما أكون هناك مع شخصيات عملي, وفي الروايات الطويلة أقضي معظم نهاري في عمل ملفات شخصيات روايتي عن تاريخ حياتها وقاموسها ومفردات لغتها ومهنتها وصفاتها النفسية والجسدية والعقائدية, ومجرد إعداد لهذه الملفات يحفرها علي جدران ذاكرتي, ونادرا ما أعود إليها أثناء مسيرة الكتابة.. وكثيرا ما تورطت في كتابة موضوعات أقف عاجزا عن إتمامها حتي لأروح أبكي في الليل وحدي بكاء مرا من فرط العجز, ويظل يصاحبني إحساس قوي بأنني لن أكمل العمل, وقد ينتهي العمل ويعجب القراء بينما يظل ذلك الإحساس الكابوس مصاحبا لي..
و..رغم أن السياسة تتخلل سطور أديبنا الذي رحل عنا دون سابق إنذار فإنه ظل يؤكد دوما أن السياسة لو دخلت في الفن أفسدته, ولذلك يكره السياسة ولا يمارسها في شكلها المباشر, ويؤكد أيضا أن قصصه ورواياته تخدم الفكر السياسي, وتفتح عيون السياسيين وترشدهم إلي أوجاع المجتمع بما يعني أن هذا الأدب هو الذي يربي هؤلاء الساسة لو كانوا يقرأون من أصله أو يعرفون الأدب.. وأليس هو الأديب الراصد لظاهرة تفريخ البلطجية بقوله في عام 2006: لقد أودي بنا العوز والفاقة حد الذل والهوان, سيما والبطن المصري خصيب كطمي نهرها النجاشي, راحت بسرعة مذهلة تدلق علي أرض الوادي وهو ما أضيقه أرتالا من الأطفال ليس في انتظارهم مهد ولا رغيف ولا كسوة ولا مدرسة ولا دواء ولا حتي بقعة أرض يمشون فوقها, وسرعان ما امتلأت ميادين الحياة بأجيال ممسوخة ممسوحة الذاكرة انتفي الوطن من وجدانهم بكل ما تعنيه كلمة الوطن من أبعاد, تم تجريدهم من كافة القيم وتحويلهم إلي سوقة يستلقطون الرزق بصنوف الشطارة والفهلوة والخداع والغش والغدر, والآن نبحث عن مصر في داخل مصر فلا نجد لها ثمة أثر. مصر لم تكن مكانا, بل مكانة, وفي غفلة منا انسربت المكانة وسرقتها قوي أخري سلطت علينا زبانيتها في الداخل فنشطوا كالسوس يأكل في الأسس إلي أن انهار المجتمع المصري تماما تحت أحذية أباطرة المال المتاجرين بكل الأسلحة, وفي غيبوبة من الشعب المصري قبل الثورة يجري بيع المكان لأذناب هذه القوي, وغدا يمتلكونها بالكامل ونصبح جميعا من بين أملاكهم, ولكن من يقرأ اعترافات السفاح رمضان التوربيني الذي لا يذكر عدد أطفال الشوارع الذين اغتصبهم وألقي بجثثهم من فوق سطح القطار يدرك أن مئات غيرهم سيكون لهم رأي آخر في القريب العاجل, فحيث يسرق الوطن من أبنائه فلا إنسانية ولا أمان!
وحول صبر المصريين وإرهاصات الثورة يقول خيري شلبي علي لسان الشيخة سعادة ساحرة الجبل نافذة البصيرة بطلة الجزء الثالث من روايته وثالثنا ورق بعد أن أتت بحزمة من أوراق البردي الأثرية المرسومة بالسر الأعظم تقرأ فيها النبوءات عما سوف يحدث قريبا في بر مصر: لا يسخرن أحدكم من عيال مصر الذين يقولون: نحن الذين دهنا الهواء دوكو ونحن الذين عبأنا الشمس في زجاجات, فهذا القول فيه من الصحة نصيب كبير!.. ذلك هو صبر المصريين علي البلاء. الصبر الذي يظنه الأغبياء تبلدا واستسلاما للعبودية! الصبر الذي بني الأهرامات وامتطي النيل وشيد للعبودية بيوتا ذات عمد راسخة!.. الصبر الذي نقش علي الحجر الصوان قصة الخلق والحياة قبل الموت وبعده! الصبر الذي حنط الأجساد بعد صعود أرواحها إلي بارئها! هو صبر من الحكمة وحكمة من الصبر, فإن رأيتم المصري يمشي لاهيا خلي البال غير معني بمن يركبه.. من يمص دمه.. من يستعبده.. فاعلموا أنكم مخطئون إن تصورتموه هكذا لأنه في الواقع يعرف كل شيء.. يدرك كل شيء.. إلا أنه حكيم طويل البال جبله الصبر علي الزرع حتي ينمو وعلي الأرز حتي يستوي!! وقد استوي الأرز وشاط وزكمت رائحته الأنوف!!!.
وقد قرأت بصيرة الأديب الراحل مستقبل الانتخابات القادمة بعد ثورة يناير التي يدور الآن الاشتباك حول فرديتها وقوائمها ونسب فلاحينها وعمالها بقوله: هذه المرة سوف تكون ملحمة بمعني الكلمة.. لقد انفك سحر القمقم فانكسر فخرج المارد مخيفا وجلفا, وفي غاية الخشونة يريد أن يمارس حريته ويسترد حقوقه بأثر رجعي. الآن وفورا.. لا وقت عنده للتفاهم.. بل لا صبر علي استيعاب سخافات كالديمقراطية والليبرالية واليسارية والثيوقراطية, ومدنية وطنية أو مدنية بمرجعية إسلامية.. إنه من الأساس فاقد الثقة في كل الأطروحات التي برغم قدمها في الإعلام المصري لم تصل إليه, وقد أغلق أذنه وعقله عن كلام المثقفين الذين طالما ضللوه ومجدوا جلاديه.. هو الآن مارد مشحون بطاقة عصبية متوفزة مستنفرة.. كل ما ناله من ذل وهوان طوال ستين عاما لم يشعر بوجعه إلا اليوم فحسب, ولسوف يندفع لتخليص ثأره كطوفان. أنصار القيادات الدينية معتدلة كانت أو متطرفة ليسوا وحدهم المتحفزين لإنجاح مرشحيهم, إنما هناك تيارات ذات تاريخ متجذر في أرض مصر, وأخري استحدثتها الثورة.. شخصيات غير تقليدية, غير مألوفة, ستدخل اللعبة في مواجهة شخصيات كلاسيكية عتيقة محترقة, أماالترشح للرئاسة فقد أنذر بمسرحية هزلية من العيار الأسود الثقيل, وجميع هؤلاء وأولئك, مرشحين وناخبين سيمارسون حقهم الانتخابي( منفوخين) بنعرة الثورة, بفهم خاطئ لمعني الحرية والديمقراطية.
ولأنه كان صاحب وكالة وتوكيل من الشعب المصري ليحكي من تجاربه وتجارب الآخرين.. من رؤاه ورؤيته.. حملت أنا مصباح نيوتن وسارعت الخطي من خلفه لأصيح وجدتها كلما وجدت في طريقي فسيلة قد زرعها الخير خيري من قبل رحيله.. وجدته قد وقف وقفة صريحة في نهاية عام98 يصرخ فيها لقد زادت الأمور عن كل الحدود حتي أصبحنا نتشكك في الزعم القائل بأن المتجاوزين من ضباط الشرطة فئة قليلة أما القاعدة فسليمة. نعم أصبحنا نتشكك في هذا القول, وإذا صدقناه مرغمين فإن هذه الفئة القليلة هي المسئولة عن قيام عداء مستحكم بين الشعب وجهاز الشرطة برمته, ولا ندري متي يعرف هؤلاء الضباط أن الاحتكاك الغليظ بالجماهير إنما هو لعب بالنار بكل معني الكلمة, وإذا كانت سيارات الأمن المركزي بكل عتادها تصيب بعض الضباط بالغرور وتفقدهم الرشد والصواب تحت وهم القوة المطلقة فإن الانفجار الجماهيري حين يحدث وهو حتما سيحدث في ظل هذه البلادة واللامبالاة والغيبوبة فلن تستطيع قوة في الأرض أن تطفئ أواره..
و..وجدتها.. ثانية.. في رنين أجراسه الأخري في البرية في العام نفسه: لابد وأن يعرف ضباط الشرطة أن صدور الناس فيها ملايين القنابل الموقوتة علي أتم الاستعداد للانفجار في أية لحظة.. إن الخريجين المتبطلين, والملايين ممن يكملون عشاءهم نوما وكمدا, والملايين من أبناء العشوائيات التي تحزم كافة المدن, والباحثين عن المسكن والمقهورين الذين لا حصر لهم ممن يتفرجون علي مظاهر الثراء الفاحش ويتلقون إلحاح الإعلانات وإغراءها المتواصل عن سلع وأشياء مبهرة, والذين يموت أبناؤهم الأبرياء تحت عجلات الموتسيكلات البحرية في مصيف مارينا, والكاظمين الغيظ من انهيار القيم ومظاهر الفساد التي لم يسبق لها مثيل في أي زمان ومكان في العالم.. كل أولئك وهؤلاء لعلم ضباط الشرطة لم يعد لديهم ما يبكون عليه, وما أسهل أن يموت الواحد منهم, ولكن موته حينئذ سيكون باهظ التكاليف وبطريقة: علي وعلي أعدائي ولتنهدم جميع المعابد علي جميع الرؤوس بغير استثناء..
و..وجدتها.. ثالثة.. عندما ناقشت روايته بغلة العرش الفساد السياسي والاجتماعي والاقتصادي بمصر وتساءل فيها عن موضوع الثروة لمن؟! وعندما قال الأدب فعل ثوري لا يكون تابعا أبدا, وإنما هو دائما في المقدمة, ووظيفة الأدب هو التنوير, والتنوير توضيح وتغذية الروح بعناصر المقاومة, والاستشراف الذي يقوم به الأدب للأحداث هو نوع من الكشف الروحي وليس نوعا من التحليل العلمي كما يدعي البعض.
و..وجدتها.. رابعة.. في رؤيته بأن الشعب هو الضامن ثورته وأنه بما لا يدع مجالا للشك أن فلول النظام السابق لن تستسلم للهزيمة بسهولة, ولسوف نعاني أشد المعاناة من كيديات تدبر في الخفاء والعلن, وهذا أمر طبيعي, فالإنسان حين يخلع ضرسا من ضروسه نخره السوس لابد وأن يعاني آلوجع حتي وإن تم الخلع بتخدير موضعي, فما بالك إذا تم الخلع بدون تخدير كما حدث في ثورة يناير؟! إن أحداثا مؤسفة كثيرة سوف تحدث في قابل الأيام, ولكن ما سبق من أحداث أكد حقيقة أهم من كل ما تأكد من قبل, تلك هي أن الشعب المصري هو الضامن الحقيقي لثورته, ولسوف يحميها بكل ما يمتلكه من بأس وإرادة لم يعد ثمة سبيل إلي قهرها.
خيري شلبي.. لم تحتفل يوما بميلادك الذي أتي في 11 يناير 1938, ومضت السنون بك وأنت في غيبة عنه, وهو يمضي شارخا بعيدا عنك حتي بلغت الأربعين لترتفع المطرقة تضرب الرأس واحد وأربعين.. خمسة وأربعين.. خمسين.. ستين.. سبعين.. حينها اكتشفت أنك دخلت الحياة صفر اليدين وبدا لك أنك ستخرج منها ولست مخلفا وراءك سوي بضعة آلاف من الأوراق أودعتها نور البصر وحرارة القلب وزخم التجربة, وأنفقت عليها ما اقتنصته من القوت.. اكتشفت في السبعين أن الحياة مؤقتة ولابد من إنجاز شيء قبل الرحيل.. وانكفأت تكتب وتكتب, وتكتب وارتفعت المطرقة لتضرب واحد وسبعين.. اثنين وسبعين وفي البوح قلت إنك ستمضي وقد قسوت علي نفسك فقد كتبت أدبك بضمير المتكلم, وهذا يعني أنك تتحمل أوزار ومساوئ أبطالك, فالقارئ العربي لايزال يخلط بين الراوي والكاتب.. لكنك وأنت علي مشارف الثالثة والسبعين أي منذ سبعة أشهر لا غير كنت سعيدا بهذا الخلط الذي يمثل قناعة القارئ بصدق ما كتبته..
والآن ترحل دون سابق إنذار ولا مرض مسبق في 9 سبتمبر 2011 ليبقي النقد علي وضعه القائم مريضا مليئا بالضلال تجاه صهاريج لآلئك التي لا يكتب عنها بدعوي العجز عن فهمها!!! وقد صدق الدكتور جابر عصفور أكاديمية المعارف المتحركة في أعظم دراساته عندما قال: إن الكتابة عن خيري شلبي تحتاج إلي مقاييس جديدة غير متداولة.. يا كاتبي وكاتب الملايين الذي ترجمت أعماله إلي الروسية والصينية والإنجليزية والفرنسية والأوردية والعبرية والإيطالية.. ليذهب النقد الهباء عندنا هباء, وما ينفع الناس مثل أدبك فيمكث في الأرض..
شددت علي يد الابن الكاتب الصحفي زين الدين خيري شلبي المتماسك ظاهريا إزاء الحادث الجلل, أردد من أقوال تراث شعبية أبيه: اللي خلف ماماتش.. ووقفت بحكم رابطة مداد كالدماء أتقبل العزاء في خيرة الأدباء.
المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.