منذ أسابيع قليلة مضت, وبالتحديد في يوم 20 يونيو الماضي نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية نقلا عن رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) السابق قوله في محاضرة أمام أعضاء سابقين في الميليشيات الصهيونية إيتسل ولماح وليحي أن مصر تتجه نحو الفوضي, وأن الأوضاع تتدهور شيئا فشيئا نحو حالة فوضي لم يشأ داغان الذي يعد من أبرز قيادات جهاز الموساد أن يقتصر علي التحليل لكنه تجاوز وأخذ يتحدث عن دور إسرائيل أو الدور الذي يجب أن تقوم به إسرائيل إزاء الأوضاع المصرية فقال: علينا أن نتابع ما يحدث هناك, وإذا بقي الجيش في الحكم أو وصل الإخوان المسلمين إلي السلطة فإن هذا سيمثل تحديا مركزيا بالنسبة إلينا. ما قاله داغان بعد نجاح ثورة 25 يناير وإسقاط نظام حسني مبارك لم يختلف كثيرا عما سبق وأعلنه بتبجح آفي ديختر الرئيس الأسبق لجهاز الشاباك (الأمن الداخلي) الإسرائيلي عام 2008 في ذروة الانشغال المصري بملف التوريث عندما قال في محاضرته الشهيرة أن التغيير في مصر لن يكون مصريا بحتا, بل سيكون لإسرائيل والولايات المتحدة دور أساسي في اختيار من يخلف مبارك في رئاسة مصر, وعندما حذر من أن إسرائيل لن تسمح بأن يأتي رئيس لمصر خلفا لمبارك لا يعفي التزامه المسبق بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية التي سبق ووصفها بأنها خط أحمر في العلاقة مع مصر. لم يكتف آفي ديختر بذلك لكنه اجتهد وحدد ثلاثة سيناريوهات للخلافة السياسية لمبارك هي أولا جمال مبارك واعتبره الاختيار المطلوب لأنه ملتزم أمام إسرائيل بالتمسك بمعاهدة السلام. وثانيا الأخوان المسلمون وقال نحن ضدهم. وثالثا: الانقلاب العسكري, وقال (سوف نحبطه), لم يشأ ديختر أن يخفي كيف سيحبط الانقلاب العسكري ضد سيناريو توريث جمال في حالة حدوثه كان صريحا إلي درجة إساءة الأدب مع مصر وجيشها عندما قال: توجد ثلاث مجموعات من الكوماندوز الأمريكيين ذوي التدريب العالي في ثلاث مناطق بالقاهرة (مصر الجديدة, وجاردن سيتي, والمعادي أي حيث رئاسة الجمهورية, والسفارة الأمريكية, ومساكن السفراء والدبلوماسيين). مهمة هذه المجموعات هي التصدي المبكر للانقلاب العسكري المحتمل ضد مبارك انتظارا لمجيء قوات مساندة من خارج الحدود. إلي هذا الحد وصل الانشغال الإسرائيلي بمصر, وإلي هذا الحد وصل التجاوز الإسرائيلي لمصر في ظل حكم حسني مبارك, أقول هذا وأنا أتأمل رد الفعل الإسرائيلي علي الإدانة الرسمية والشعبية المصرية لجريمة الاعتداء الإسرائيلي علي جنود مصر علي الحدود مع فلسطينالمحتلة, وكيف أنهم رفضوا الاعتذار لمصر رسميا واكتفوا فقط بالأسف علي نحو ما أفصح وزير الحرب إيهود باراك, أقول أيضا وأنا أقرأ بأسي بالغ ما ورد علي لسان السفير المصري في تل أبيب ياسر رضا في لقائه مع إيلي يشال وزير الداخلية الإسرائيلي في تقرير نقلته القناة الثانية الإسرائيلية يوم الجمعة الماضي (9/9/2011) أي يوم مليونية تصحيح المسار التي جرت أحداثها في ميدان التحرير بالقاهرة. فقد جاء علي لسان السفير المصري أن العلاقة بين مصر وإسرائيل لن تنقطع أبدا, ولا توجد أدني مخاوف أو قلق من قطع العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين, لأن الأصوات المطالبة بإلغاء السلام مع إسرائيل في مصر ليست إلا أصواتا قليلة وجوفاء وغير مؤثرة بالمرة. لا أدري من أين جاء هذا السفير بكل هذه القدرة علي إهانة شعبه وباسم من يتحدث باسم الشعب المصري أم باسم الشعب الإسرائيلي؟. خطورة ما ورد علي لسان السفير المصري في تل أبيب أنه جاء منسجما مع فهم خاطئ, من جانب البعض لما يجب أن يكون عليه رد فعل مصر علي ما حدث من اقتحام للسفارة الإسرائيلية ليلة السبت الماضي عقب اختتام جمعة تصحيح المسار. فقد تسارع كثيرون علي التبرؤ مما حدث وإدانته, وإذا كان هذا التبرؤ والإدانة يمكن أن تكون مقبولة لاحتواء الخطأ الذي حدث بحق التزامات مصر الدبلوماسية أمام العالم وبالتحديد ما يتعلق بحماية المنشآت الدبلوماسية في مصر, فإن محاولة البعض استغلال هذه الظروف للعودة بمصر إلي سابق عهدها أيام النظام السابق لإعطاء حصانة للعلاقة مع الكيان الصهيوني ليس إلا انتهاكا وعدوانا علي الأهداف التي قامت ثورة 25 يناير من أجلها والتي جعلت من الكرامة والسيادة الوطنية هدفين أساسيين جنبا إلي جنب مع هدفي الحرية والعدالة. فبدلا من الانخراط في بكائية نعي السلام مع إسرائيل بات من الضروري وضع مشروع وطني لتحرير مصر من قيود ما يسمي بمعاهدة السلام مع العدو الصهيوني, مشروع يؤمن الخروج الآمن من مذلة هذه المعاهدة, فقد أصبح من حق مصر, وبعد احترامها لشروط تلك المعاهدة وعلي مدي أكثر من 30 عاما, ولدوافع مصالح أمنية وطنية بحتة, أن تطالب بتعديل بعض نصوص تلك المعاهدة وخاصة الملف العسكري الذي حال دون تمكين الجيش المصري من فرض السيادة الوطنية علي كامل أرض سيناء, لكن لكي نطور التعديل إلي الإلغاء للمعاهدة فإن هذا لا يمكن إلا عبر توفير شروط باهظة التكاليف علينا أن نتحملها وأن نشرع في العمل من أجلها. فالمطالبة بإلغاء المعاهدة لن يكون إلا بتمكين الجيش المصري من امتلاك القدرة التسليحية والقتالية لرد أي عدوان ودحره, ولن يكون إلا بتخليص الجيش المصري من قيود التسليح الأمريكية ودخول مصر عصر صناعة السلاح المتطور وتنويع مصادر التسليح, ولن يكون إلا بإنهاء التبعية الاقتصادية والسياسية المصرية للولايات المتحدة بإعادة بناء اقتصاد مصري قوي. ولن يكون إلا بإعادة بناء النظام السياسي المصري وتأسيس نظام يحقق الأهداف التي قامت الثورة من أجلها بناء مجتمع العزة والكرامة, مجتمع الحرية والعدل والكرامة والسيادة الوطنية, عندها فقط نكون قد وصلنا إلي ما وصلت إليه تركيا الآن من اقتدار ومكانة وقدرة علي امتلاك الإرادة الوطنية الحرة المستقلة, لكن المهم أن نعرف من أين نبدأ وعبر أي مسار يجب أن نبدأ, لكن الأهم هو أن تتحقق وحدة المصريين حول أهداف وطنية عليا, أن نبني مصر قوية وأن نصل بثورتنا إلي بر الأمان, وأن نحول دون الانتكاس بها وتمكين النظام السابق من الارتداد عليها خصوصا أنه لم يتوان عن التربص بها أملا في الانقضاض عليها عبر أعوانه وحلفائه في الداخل والخارج وجعل الفوضي والخراب عنوانا لمشروعه. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس