تميز عام 1914 بالعلاقة العضوية بين العامل الذاتي والعامل الموضوعي في العلاقات الدولية. ففي 28 يونيو سنة 1914 أطلق طالب أصولي, من الصرب, الرصاص علي الأرشيدوق فرانتز فردينند وريث العرش النمساوي فقتله هو وزوجته في سراييفو التي كانت مدينة نمساوية قرب حدود الصرب. طالبت النمسا باجراء تحقيق في الحادث باعتباره مؤامرة جذورها ممتدة في مملكة الصرب حسب تصورها. ولكن الصرب امتنعت عن الاستجابة فأرسلت الحكومة النمساوية انذارا نهائيا في 23 يوليو 1914 يؤدي رفضه إلي اعلان الحرب. وقد كان, إذ أعلنت ألمانيا الحرب علي روسيا في 20 أغسطس فانحازت انجلترا إلي فرنسا وانضمت تركيا إلي ألمانيا. وفي 24 مايو 1915 أشهرت ايطاليا الحرب علي النمسا. وفي عام 1917 دخلت أمريكا الحرب مع فرنساوانجلترا فانهارت ألمانيا. وهكذا انغمست كل الدول الكبري ما عدا اسبانيا وهولندا والدول الاسكندنافية وسويسرا. بل إن قوات عسكرية جاءت من خارج أوروبا لتحارب خارج حدودها الاقليمية. فالقوات الكندية حاربت في فرنسا, وكذلك فعلت الهند. ومن هنا قيل عن حرب 1914 إنها الحرب العالمية الأولي لأن حروب ما قبل ذلك العام كانت حروبا اقليمية. واذا كان لكل حادث نهاية فقد كانت نهاية الحرب العالمية الأولي في 11/11/1918, وفي 18 يناير 1919 انعقد مؤتمر الصلح بتحكم من وودرو ولسن رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية, إذ هو الذي حدد النقط الأربع عشرة التي رسمت خريطة أوروبا الجديدة المحكومة بمبدأ جديد هو حق كل أمة في تقرير مصيرها, وحق الأقليات في طلب الحماية. كان هذا هو حال العامل الموضوعي في تلك الحرب العالمية فماذا كان حال العامل الذاتي, أو بالأدق ماذا كان حال العلماء والفلاسفة والفنانين ؟ أعلن عالم الفيزياء جيمس طومسون الذي كان رئيسا للجمعية الملكية أن الحرب علي ألمانيا لصالح صربيا وروسيا هي خطيئة ترتكب ضد الحضارة الانسانية. ولم يكتشف الفيلسوف الانجليزي برتراند رسل فظاعة الحرب إلا في أغسطس 1914 عندما التقي عالم الاقتصاد الانجليزي جون كينز في كمبردج وهويجري ليستأجر دراجة بخارية لتعينه علي الذهاب إلي لندن. وفي ذلك اللقاء همس كينز في أذن رسل قائلا: أنا ذاهب إلي هناك بأمر من الحكومة. وفي اليوم التالي رحل رسل إلي لندن وهو في حالة رعب من قيام الحرب. أما الفنان الاسباني بيكاسو الذي كان يعمل في باريس فقد سحب أمواله من البنك قبل الحرب بيوم واحد وحاكاه في ذلك آلاف الفرنسيين. ولكن الذي لفت انتباهي في كل ذلك فيلسوف آخر اسمه لودفيج فتجنشتين نمساوي يهودي قيل عنه إنه من أعظم الفلاسفة الذين أحدثوا تأثيرا في العالم الناطق باللغة الانجليزية مع أنه لم يكن ناشطا سياسيا ولم تكن فلسفته من الوضوح بحيث يفهمها غير المتخصصين, ولم يكن هو علي وعي بأسباب تأثيره. كيف حدث ذلك؟ في عام 1914 أرسل فتجنشتين إلي أستاذه رسل الذي تتلمذ له في جامعة كمبردج مخطوط كتاب من تأليفه تحت عنوان رسالة منطقية- فلسفية ويقع في ثمانين صفحة, وكان هو الكتاب الوحيد الذي طبعه في أثناء حياته. والسؤال اذن: ماذا يعني عنوان ذلك الكتاب؟ أجاب فتجنشتين عن هذا السؤال بسؤال آخر هو محور الكتاب, والسؤال هو علي النحو الآتي: كيف تكون اللغة ممكنة؟ وأجاب فتجنشتين عن هذا السؤال بسؤال أيضا وجاء علي النحو الآتي: ما الغاية من استعمال اللغة؟ إن الغاية من استعمالها وصف العالم في حدود الوقائع, أي تصوير العالم. ومعني ذلك أن اللغة ليس في امكانها مجاوزة وصف الوقائع, واذا تجاوزته فاننا في هذه الحالة نندفع إلي تركيب عبارات بلا معني, أي نندفع إلي قول ألفاظ لا مقابل لها في الواقع. وتأسيسا علي ذلك يمكن القول بأن الأحكام الأخلاقية المطلقة هي بلا معني. وهنا ثمة سؤال جوهري: هل أراد فتجنشتين من نظريته في اللغة توجيه الاتهام إلي أن من يشعل الحرب إنما يستند إلي حكم أخلاقي مطلق, وبالتالي تكون الحرب زائفة, أي بلا معني؟ جواب هذا السؤال في المقالات القادمة المزيد من مقالات مراد وهبة