تعرف على سعر الدولار اليوم الخميس 2 مايو مقابل الجنيه    وزير الدفاع الأمريكي يبحث مع نظيره الإسرائيلي مفاوضات صفقة تبادل الأسرى واجتياح رفح    عقوبات أمريكية على روسيا وحلفاء لها بسبب برامج التصنيع العسكري    عاجل.. الزمالك يفاوض ساحر دريمز الغاني    رياح وشبورة.. تعرف على حالة الطقس اليوم الخميس 2 مايو    ضبط عاطل وأخصائى تمريض تخصص في تقليد الأختام وتزوير التقرير الطبى بسوهاج    تشيلسي وتوتنهام اليوم فى مباراة من العيار الثقيل بالدوري الإنجليزي.. الموعد والتشكيل المتوقع    خبير تحكيمي يكشف مدى صحة ركلة جزاء الإسماعيلي أمام الأهلي    فلسطين.. قوات الاحتلال تقتحم مخيم قلنديا شمال شرق القدس المحتلة    الثاني خلال ساعات، زلزال جديد يضرب سعر الذهب بعد تثبيت المركزي الأمريكي للفائدة    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على الإعلامية "حليمة بولند" في الكويت    التحضيرات الأخيرة لحفل آمال ماهر في جدة (فيديو)    ما الفرق بين البيض الأبيض والأحمر؟    متى تصبح العمليات العسكرية جرائم حرب؟.. خبير قانوني يجيب    أول ظهور ل أحمد السقا وزوجته مها الصغير بعد شائعة انفصالهما    بتهمة التحريض على الفسق والفجور.. القبض على حليمة بولند وترحيلها للسجن    «البنتاجون»: أوستن أكد لنظيره الإسرائيلي ضرورة ضمان تدفق المساعدات إلى غزة    طريقة عمل الآيس كريم بالبسكويت والموز.. «خلي أولادك يفرحوا»    مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني يواصل تصدره التريند بعد عرض الحلقة ال 3 و4    أمطار تاريخية وسيول تضرب القصيم والأرصاد السعودية تحذر (فيديو)    حسن مصطفى: كولر يظلم بعض لاعبي الأهلي لحساب آخرين..والإسماعيلي يعاني من نقص الخبرات    سعر الموز والخوخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 2 مايو 2024    مُهلة جديدة لسيارات المصريين بالخارج.. ما هي الفئات المستحقة؟    كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي في الموارد البشرية؟    احذر الغرامة.. آخر موعد لسداد فاتورة أبريل 2024 للتليفون الأرضي    لاعب الزمالك السابق: إمام عاشور يشبه حازم إمام ويستطيع أن يصبح الأفضل في إفريقيا    وليد صلاح الدين يرشح لاعبًا مفاجأة ل الأهلي    هاجر الشرنوبي تُحيي ذكرى ميلاد والدها وتوجه له رسالة مؤثرة.. ماذا قالت؟    عميد أصول الدين: المؤمن لا يكون عاطلا عن العمل    بشروط ميسرة.. دون اعتماد جهة عملك ودون تحويل راتبك استلم تمويلك فورى    البنتاجون: إنجاز 50% من الرصيف البحري في غزة    هذه وصفات طريقة عمل كيكة البراوني    أهمية ممارسة الرياضة في فصل الصيف وخلال الأجواء الحارة    صندوق مكافحة الإدمان: 14 % من دراما 2024 عرضت أضرار التعاطي وأثره على الفرد والمجتمع    ترابط بين اللغتين البلوشية والعربية.. ندوة حول «جسر الخطاب الحضاري والحوار الفكري»    حكم دفع الزكاة لشراء أدوية للمرضى الفقراء    مواقيت الصلاة اليوم الخميس 2 مايو في محافظات مصر    بسام الشماع: لا توجد لعنة للفراعنة ولا قوى خارقة تحمي المقابر الفرعونية    مظهر شاهين: تقبيل حسام موافي يد "أبوالعنين" لا يتعارض مع الشرع    الأنبا باخوم يترأس صلاة ليلة خميس العهد من البصخة المقدسه بالعبور    يوسف الحسيني : الرئيس السيسي وضع سيناء على خريطة التنمية    اشتري بسرعة .. مفاجأة في أسعار الحديد    النصر يطيح بالخليج من نصف نهائي كأس الملك بالسعودية    حيثيات الحكم بالسجن المشدد 5 سنوات على فرد أمن شرع فى قتل مديره: اعتقد أنه سبب فى فصله من العمل    برج الميزان .. حظك اليوم الخميس 2 مايو 2024 : تجاهل السلبيات    أخبار التوك شو|"القبائل العربية" يختار السيسي رئيسًا فخريًا للاتحاد.. مصطفى بكري للرئيس السيسي: دمت لنا قائدا جسورا مدافعا عن الوطن والأمة    أول تعليق من الصحة على كارثة "أسترازينيكا"    بعد أيام قليلة.. موعد إجازة شم النسيم لعام 2024 وأصل الاحتفال به    لبنان.. الطيران الإسرائيلي يشن غارتين بالصواريخ على أطراف بلدة شبعا    مفاجأة للموظفين.. عدد أيام إجازة شم النسيم في مصر بعد قرار ترحيل موعد عيد العمال    بروسيا دورتموند يقتنص فوزا صعبا أمام باريس سان جيرمان في ذهاب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    القوات الأوكرانية تصد 89 هجومًا روسيًا خلال ال24 ساعة الماضية    حمالات تموينية للرقابة على الأسواق وضبط المخالفين بالإسكندرية    النيابة تستعجل تحريات واقعة إشعال شخص النيران بنفسه بسبب الميراث في الإسكندرية    أكاديمية الأزهر وكلية الدعوة بالقاهرة تخرجان دفعة جديدة من دورة "إعداد الداعية المعاصر"    بقرار جمهوري.. تعيين الدكتورة نجلاء الأشرف عميدا لكلية التربية النوعية    الوطنية للتدريب في ضيافة القومي للطفولة والأمومة    وزير الأوقاف: تحية إعزاز وتقدير لعمال مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحنين إلي البيت القديم في روايات عميد الأدب

(1) تلح فكرة البيت القديم علي مجموعة متنوعة من روايات نجيب محفوظ تنتمي إلي تواريخ صدور متباينة:( السراب)1948, الثلاثية1956 و1957,( والثلاثية كتبت1952 ونشرت مسلسلة في مجلة الرسالة ثم صدرت في ثلاثة اجزاء في عامي1956 و1957), و(أولاد حارتنا)1959,( السمان والخريف)1962,( ميرامار)1967,( قلب الليل)1975,( أفراح القبة)1981,( الباقي من الزمن ساعة)1982,( يوم قتل الزعيم).1985 قد تبدو هذه الفكرة مركزية في بعض هذه الروايات وغير مركزية وأحيانا هامشية في بعضها الآخر, كما قد تتنوع ملامح البيت القديم, وصياغاته, وتتعدد ألوان العلاقة به, وتتباين صور أولئك الذين يعيشون فيه, أو ينتمون إليه, أو يستحضرونه من مكان آخر أو من زمن آخر, وأيضا قد تتغاير مواقعهم إزاءه ودرجة متانة الروابط التي تصلهم به أو تصله بهم, ورغبتهم في العودة إليه أو الإمعان في النأي عنه.. إلخ, لكن يظل البيت القديم, مكانا وزمنا, يمثل هاجسا مسيطرا, أو يمثل تيمةTheme متكررة, تتردد في هذه الروايات, وتسهم إلي حد بعيد في صياغة ملامحها وعوالمها. البيت القديم علي مستوي علاقته بالزمن والمكان, يعد مكانا مشبعا بالزمن, أو يمثل حالة من حالات إخضاع المكان لتأثيرات الزمن, وهو بذلك يلتقي والقصر القديم في الروايات التاريخية الكلاسيكية, إذ في أركان ذلك القصر فيما يري ميخائيل باختين, في كتابه المهم( أشكال الزمان والمكان في الرواية) ترسبت آثار الزمن, وفي جنباته تلوح معالم حيوات ساكنيه, و تكمن ذكرياتهم. وإذ يتم استحضار البيت القديم, من موقع النأي عنه في الزمن أو في المكان أو فيهما معا, فنحن أمام زمن جديد مختلف, ففعل الاستحضار نفسه لازماني.
خلال فكرة البيت القديم, واستعادته, إذن, يمكن استكشاف مستويات متنوعة للمكان وللزمن علي السواء. وهذه المستويات يمكن أن تتحقق, روائيا, بأشكال وطرائق شتي, تتعدد بتعدد وجوه تناول البيت القديم, وتتباين بتباين سياقات هذا التناول, في آن البيت مكانيا, هو تعبير عن عالم المأوي, الانتماء, الحماية, التقارب, الحميمية والخصوصية.. إلخ. وقدم هذا البيت زمنيا, يرتبط بماض كان حاضرا قبل أن ينتهي إلي حاضر آخر, أو قبل أن يتواري ليحل مكانه ؟! حاضر آخر. والبيت القديم, بيت الطفولة, هو مكان الألفة ومركز تكييف الخيال, فيما يري جاستون باشلار.
علي مستوي ما, هناك انفصال غالبا عن هذا البيت, أو هناك نأي عنه. يتحقق هذا الانفصال أو النأي بعد انتقال إلي مكان آخر, أو إلي زمن آخر, أو إلي زمن ومكان آخرين. ومن هذا الموضع, في الحاضر القائم, أي من موقع مغاير لذلك الذي كان هناك, تستعاد صورة الوجود في البيت القديم, لتدرأ الإحساس بوطأة افتقاد, وربما فقدان, معانيه اللصيقة به( المأوي, الألفة, الانتماء.. إلخ), أو لتدافع غياب زمنه الذي نأي به, وولي بمعانيه. لم تكن الذات( التي تفتقد البيت القديم, أو تستعيده, الآن) تحيا وحيدة داخله( وإلا كان سجنا!). ثمة آخرون وأخريات, علي الأرجح, كانوا وكن في ذلك البيت. الأم, غالبا, علي رأس هؤلاء, وربما كان هناك الأب والإخوة والأخوات. كانت هنالك, أيضا علي الأرجح, تجسيدات ما لأواصر الدم والقربي, وذكريات عن اللعب واللهو, والبراءة, والتعرف والاكتشاف. ليس من السهل قطع هذه الأواصر أو نسيان تلك الذكريات; ومن هنا ينبثق إلحاح صورة البيت القديم, من موضعه المتباعد في الزمن والمكان, علي ذاكرة الشخصية في زمن ومكان آخرين.
قد يتصل وغالبا ما يتصل باستحضار البيت القديم توق له أو نزوع إلي العودة إليه. يومئ هذا التوق, أو ذاك النزوع, إلي رغبة كامنة أو مستترة في اجتياز زمن ومكان قائمين, باتجاه زمن البيت ومكانه. وهذه الرغبة( التي لا تعدو كونها رغبة, أي محض حنين مقترن باستمرار حالة النأي بعيدا عن البيت) تمثل جزءا مما يقود إلي ما يسمي استعارة العودة إلي البيت; وهي في تصور بول ريكور أن يبتعد الإنسان عن بيته ويكون فيه في وقت واحد, بما يجعلنا نستعيد بيت أبي تمام القديم:
كم منزل في الأرض يألفه الفتي وحنينه أبدا لأول منزل بالخروج من البيت والكون فيه في الوقت نفسه, بالنأي عنه والتوق إلي عالمه معا, يتكون ذلك الوضع الإشكالي الماثل, والذي سيظل ماثلا باستمرار, وتقريبا بلا إمكان لنفيه أو حله. لقد تحقق وتأكد واكتمل الانتقال بين مكانين, زمنين, عالمين, علي الأقل, ولم يعد بالمستطاع سوي حنين محال الإشباع لنفي هذا الانتقال الذي تم بالفعل. ونحن هنا يمكن ألا نكون فحسب إزاء نزوع للعودة بل إزاء نزوع للاستعادة; لاسترداد مكان قد تناءي وتغير( وربما لم يعد له وجود إلا في الذاكرة), وللإمساك بزمن قد مر وانقضي, انتهي وولي( لم يعد له وجود إلا في المخيلة). ومن هنا, فهذه الاستحالة تجعل من حنين العودة إلي البيت القديم حالة موازية من وجوه عدة لحنين العودة إلي حضن الأم, أو إلي رحمها, وموازية أيضا للتوق إلي الفردوس الأول المفقود.
(2)
يمس عالما( السمان والخريف) و(ميرامار) موضوحة البيت القديم مسا هينا. ثمة إشارتان عابرتان إلي بيت قديم بمعني مقارب, ثم بمعني مجاوز, لذلك المعني الذي نتوقف عنده. في الرواية الأولي يلوح ذلك البيت موطنا توشك أن تتحقق العودة إليه بعد الارتحال والإقامة بعيدا عنه. فكر الابن في هجرة القاهرة والإقامة في الإسكندرية, ولم يعد لأمه العجوز ما يربطها بشقة كانت تقاسمه العيش فيها, فتقرر بحسم أن تعود لبيتها القديم, رافضة الانتقال للسكني مع أي بنت من بناتها المتزوجات: سأرجع إلي البيت القديم بالوايلية( السمان والخريف, ص76, وهذا التشديد وكل التشديدات التالية في نصوص الروايات من عندنا و اعتمدنا لروايات نجيب محفوظ طبعة مكتبة مصر, الفجالة, القاهرة, وأغلبها دون تاريخ. واعتمدنا لرواية أولاد حارتنا طبعة دار الآداب, بيروت, الطبعة الخامسة,1986).
وفي الرواية الثانية يلوح بيت قديم آخر, بمعني خاص, كأنه تجسيد ماثل, دائما أبدا, مع كل بيت شبيه, لنشوة الحب المشبوب بخيبة الأمل. يتذكر عامر وجدي, وقد صار عجوزا في حاضر الرواية ذلك البيت ويستدعيه بزمنه المنقضي البعيد ومكانه الذي تناءي, ظاهريا فحسب. لم يعش عامر في هذا البيت, ومن ثم لم ينتم إليه, لكن كانت تحيا في ذلك البيت المحبوبة التي حلم, في ذاك الزمن البعيد, بالزواج منها: ذلك البيت الكبير الذي تحول مع الأيام إلي فندق, يراه السائر في خان جعفر كقلعة صغيرة, في حوشه القديم الذي شق فيه طريق إلي خان الخليلي, لقد نقش في قلبي هو وما يكتنفه من بيوت قديمة.. إلخ( ميرامار, ص21). وفي الذكري الماثلة أبدا, المنقوشة في قلب لم يتغضن وإن بات صاحبه عجوزا, يبقي من البيت القديم ملمحان يناوشان الذاكرة التي سقطت منها أشياء وملامح شتي: قدم ذلك البيت( مع بيوت أخري قديمة), والخروج منه أو بالأحري عدم إمكان الدخول إليه.
في روايتي( قلب الليل) و(يوم قتل الزعيم) حضور أكبر لمفردة البيت القديم. في الرواية الأولي يسوق الراوي إلي بيت جعفر الراوي إشارة تفصح عن إعجاب: هناك(...) الذكريات القديمة وافتتاني ببيت الراوي.. إلخ( قلب الليل, ص8). وسوف يتحدث جعفر الراوي أحاديث مطولة عن بيت قديم آخر, عاش فيه وأمه وحدهما, حياة بات يراها, في زمن لاحق, شبيهة بالعيش في جنة أرضية: كنا نغادر بيتنا كل يوم, نزور أضرحة ودكاكين ونبتاع ما يلزمنا ثم نرجع إلي بيتنا فتنهمك هي في الواجبات المنزلية وآوي أنا إلي جنتي الأرضية بين القطط والدجاج( الرواية, ص24,23). في هذا البيت المستعاد من خارجه, من زمن تال ومن مكان يقع خارج البيوت جميعا, نري جعفر وهو ينمو, ونرقبه وهو يلعب لعبة الحب, طفلا, مع بنت تماثله في السن, داخل سحارة( انظر الرواية, ص25), قبل أن نلمحه وهو يشهد موت أمه الذي كان بمثابة نقطة تحول زمني ومكاني, حيث أعقب هذا الموت الخروج من ذلك البيت القديم إلي بيت جده, ثم إلي أماكن أخري في أزمنة أخري, خلال الرحلة التي قطعها. سوف يمر جعفر, عبر هذه الرحلة, بتجارب شتي, ولكنه سيظل, دائما أبدا, يرنو إلي جنة ذلك البيت القديم الأولي, وإلي أسطورة أمه, ويتحسر علي العالم الذي تلاشي كسحابة مهرولة غابت في المجهول. وفي رواية( يوم قتل الزعيم) نحن إزاء أصوات متعددة لرواة متعددين, أحدهم محتشمي زايد يستعيد في حاضره وحاضر البيت الذي لا يزال يعيش فيه زمنهما الأول القديم, بعدما أحدق بالبيت وأطبق عليه حاضر يتهدده بالزوال. لسنا هنا إزاء ما بعد الرحيل عن البيت القديم, ولكننا إزاء تهيؤ لخروج وشيك منه. ثمة عالم أتي زاحفا ثم بات مقيما رازحا. هذا العالم الذي حاصر البيت وجعله غريبا ضئيلا, نشازا تقريبا, وسط عمائر تنتمي إلي زمن آخر: بيتنا أقدم وأصغر بيت في شارع النيل. قزم وسط العمائر الحديثة.. إلخ( يوم قتل الزعيم, ص ص9,8). لقد تغير كل ما حول البيت, وتغير كل من فيه, ولم يعد هناك سوي أفراد قليلين يتذكرون زمنه الغابر. لكن من بين هؤلاء القليلين الجد وحفيده; هما تجسيدان لزمنين في شخصيتين. الحفيد, علوان فواز محتشمي, يستعيد ذلك العالم القديم للبيت, وللوطن كله, في آن واحد, بما يصل بين البيت والوطن: كانت الشقة عامرة بالأخوات والدفء(...) كان لأبي ولأمي وجود في البيت, وكان يوجد حوار وضحك وحماس الدراسة وسطوة البطولة. احنا الشعب. اخترناك من قلب الشعب( الرواية, ص23), ويري علوان, الآن, في جنبات البيت وأركانه المتآكلة سنوات طفولته وشبابه الأول; تجاربه التي نمت به ونما بها, ويشهد الآن في هذه الجنبات والأركان, ويستعيد, أحلامه الأولي: أتذكر وأحلم وأحلم وأتذكر. قصة طويلة ترجع إلي أقدم عصور الحياة في بيتنا القديم الفريد( ص11).. إلخ. أما الجد, الذاهب من الزمن الراهن حيث تغير كل شئ( النيل نفسه تغير.. ص9) إلي زمن سعادته المنقضي, فلا يسعه سوي أن يطلب من الله حسن الختام, وأن ينشر ندي رحمته في أركان هذا البيت القديم( الرواية, ص42).
(3)
من زاوية ما, يلوح تناول البيت القديم في رواية الثلاثية قريبا من هذا التناول في( يوم قتل الزعيم). لقد تغير العالم, وتغير البيت نفسه, وتفككت التميمة التي كانت تصوغ الرابطة الحميمة الدافئة به, ولكن الخروج من البيت, علي مستوي الفعل, لم يتحقق تماما بعد.
بيت الثلاثية, في زمنه الأول, كان يرتسم جنة لبعض أهله علي الأقل. تخرج أمينة في( بين القصرين) لزيارة ضريح الحسين, دون علم زوجها الذي يطردها من البيت فتحدثها أمها( باستدعاء لافت للخروج من الجنة, وللشيطان; مافعله بها وما فعله من قبل في زمن سحيق): عليه اللعنة, أيزل اللعين قدميك بعد خمسة وعشرين عاما من الوئام والسلام!.. ولكنه هو الذي أخرج أبانا آدم وأمنا حواء من الجنة( الرواية, ص195). يتواشج معني الخروج من الجنة ومعني الخروج من الوطن في ذلك الحدث نفسه. فعقب طرد أمينة من البيت راح أولادها يتحدثون عن أمهم في منفاها..( ص204). وفي هذا المنفي سوف تشتاق الأم إلي أولادها اشتياق المغترب في بلد بعيد إلي أحباب فرق الدهر بينه وبينهم, علي الرغم من أن الزمن الذي يتغيبونه عنها في البيت الجديد, الذي يزورونها فيه] لم يزد كثيرا عن نظيره في البيت القديم( الرواية, ص222). لقد خاضت أمينة تجربة الخروج; امتحانه ومحنته, بشكل كامل تقريبا; ابتداء من الدموع التي ميعت الطريق أمام عينيها في خطواتها الأولي, عندما: غادرت(...) البيت بعينين ذارفتين تراءي الطريق خلال دمعهما وهو يتميع( ص192), ومرورا بآلام الحنين التي كابدتها في منفاها. لكن كل آلام هذه التجربة, الامتحان والمحنة, سوف تنتهي بعودة أمينة إلي بيتها/ جنتها/ وطنها, مرة أخري.
تذوي جنة البيت, وتتحلل ملامحه, وتتغير رؤي أهله له بموازاة تغيرات الزمن الملحوظة في( قصر الشوق) ثم( السكرية), الجزئين التاليين من الثلاثية, اللذين يتناولان وقائع لاحقة زمنيا.
بدأ الأمر, في( قصر الشوق), بوضع تنظيم جديد للبيت( انظر قصر الشوق ص15), حيث ورثت صالة الدور الأعلي أختها بالدور المهجور, فغدت الأولي مجلسا ومقهي لمن تبقي في البيت القديم( انظر الرواية ص30). وفي مرحلة لاحقة سوف يتقلص مجلس القهوة ليقتصر علي كمال وأمه فقط( انظر قصر الشوق, ص166 و ص400). ثم يزداد وضوح تهاوي عالم البيت في( السكرية): اتخذ البيت القديم مع الزمن صورة جديدة تنذر بالانحلال والتدهور. انفرط نظامه وتقوض مجلسه, وكان النظام والمجلس روحه الأصيل( السكرية, ص195).. كان الأب حتي بعد انزوائه يملأ هذه الحياة, فلن يكون غريبا إذا وجد غدا البيت غير البيت الذي عهده( السكرية, ص224).. إلخ, إلي أن يلوح البيت أقل حضورا بالرواية, ويوازي ذلك انتقال الراوي بمساحات كبيرة بالرواية مع ساكني البيت إلي خارجه. لن نمضي, في الثلاثية, بعيدا خارج البيت, ولكننا سنتوقف عند نقطة تمثل بداية خروج وشيك منه. في نهاية( السكرية) يومئ كمال إلي مصير قريب محتوم, سوف يؤول إليه عالم البيت بغياب الأم( لاحظ القران بين البيت والأم): هذه الحجرة, حجرة الأم] ستتغير معالمها وستتغير بالتالي معالم البيت في مجموعه( الرواية, ص336). لقد اكتمل تدهور البيت, وتفككت أواصره, ودخلت الأم تميمة البيت في عالم الثلاثية كله في طور غيابها الأخير. فما الذي يمكن أن يتبقي, إذن, من معني الجنة ؟
(4)
في روايات( السراب) و(أفراح القبة) و(قلب الليل) تتجلي أبعاد أخري لمفردة البيت القديم في عالم نجيب محفوظ. في( السراب) يقترن, علي نحو يكاد يكون مجاوزا حدود السواء المألوف, كل من الشخص المحوري, كامل رؤبة لاظ, وأمه والبيت القديم( أيضا دونما أب, كما هو الحال في قلب الليل). تلوح المجالات الزمنية المكانية جميعا بالرواية داعمة لمتصل الابن الأم البيت; كأن الرواية, التي تمت قراءتها عند بعض نقاد محفوظ خلال الطرح الأوديبي, تقدم تصورا مفصلا, مشروحا ومدرسيا تقريبا, للكيفية السيكولوجية التي يمكن أن تلتقي خلالها فكرة حنين العودة إلي البيت وفكرة حنين العودة إلي الرحم. يستعاد عالم الرواية خلال كتابة تنتمي افتراضا إلي الشخص المحوري, وهو الراوي في الوقت نفسه, كامل رؤبة لاظ( هل هذه الكتابة, الكلاسيكية الرزينة, السليمة لغويا, مقنعة في انتمائها إليه؟!), وتنطلق هذه الاستعادة من زمن ما بعد التفكك الظاهري للآصرة التي جمعت بين أطرافها: الأم, الابن, البيت. تشير الرواية, في مساحات عدة, مطولة, إلي صلة كامل الحميمة بأمه, حتي بعد موتها الذي لا يستطيع أن يسلم به رغم حدوثه: كانت أمي وحياتي شيئا واحدا, وقد ختمت حياة أمي في هذه الدنيا ولكنها لا تزال كامنة في أعماق حياتي مستمرة باستمرارها..( ص7).. يرصد كامل, مستعيدا تجربته وأمه, كيف وجدت فيه الأم عزاء عما فقدت وافتقدت: كرست حياتها جميعا لي, أنام في حضنها, وأقضي نهاري علي كتفها.. إلخ( ص17), ويؤكد التصاقها به إلي حد بدا معه فيما يقول كأنه عضو من أعضاء جسدها( ص20). رفضت أمه في طفولته ألا يفارقها وألا تفارقه, ومنعته من اللعب خارج البيت( انظر مثلا ص23 وص20), ورفضت, فيما بعد, أكثر من اقتراح بتزويجه( انظر الرواية صفحات99 و101 و102), قبل أن توافق مضطرة علي زواجه الذي لن ينجح أبدا.
هذه العلاقة التي ظلت خلالها الأم مهيمنة علي حياة كامل, متوارية وراء كل شيء فيما يقول( انظر ص137), تتشكل داخل البيت القديم, في زمن طفولة الابن. يتوقف كامل مطولا عند ملامح لهذا البيت ترسمه جنة سوف تترسخ ملامحها في ذاكرته إلي الأبد, يظل يستعيدها دائما في كل زمن آخر ومن كل مكان آخر, مسوقا بنداء الحنين الملح إلي الطفولة: كان بيت جدي بالمنيل مولدي وملعبي ودنياي(...) لست أريد التحدث عن البيت ولكني أتلهف علي استعادة الماضي(...) وما البيت ببناء وعمارة وهندسة, ولكنه برج ثابت في الزمان يأوي إليه حمام الذكريات, الساجع بالحنين إلي ما انقضي من أعمارنا(...) ولأعترف أني شديد الحنين إلي الماضي(...) ولعل ذلك مني ليس إلا توقا صريحا إلي الطفولة( ص16).
(5)
للبيت الكبير, الذي فيه معني الخلود يزحزح معني القدم, حضور أساسي في رواية( أولاد حارتنا). ينتمي إلي هذا البيت ويعيش فيه منشئ الحارة, ومبتعث إلهامها, ونموذجها الأعلي, وصائغ أحلام من يحلمون فيها. وهذا البيت أيضا مثار تساؤلات من يتساءل من أهل الحارة, وموطن العزاء لمن لا يملك إلا أن يلتمس العزاء. لكن هذا البيت, كذلك, هو المنغلق دون الحارة, المنفصل عنها, والشاهد الماثل أبدا أمامها.. وكأنه شارة علي أصل بعيد وإرادة لا تقهر وحلم بعودة تلوح حينا جد قريبة, وتلوح أحيانا محاولة التحقق.
في ماض كان حاضرا, تتوقف الراوية, في حيز محدود ببدايتها, عند عالم هذا البيت كما يبدو من داخله, في ذلك الزمن الأول, قبل نشوء الحارة وتكوينها. ثم في الحيز الأكبر من الرواية يلوح ذلك البيت, دائما, من خارجه, غامضا نائيا, قائما راسخا, مغلقا منيعا, لا يخرج تقريبا منه أحد ولا يدخله أحد( مع استثناءات قليلة). ويظل البيت الكبير يتلفع بذكريات الماضي المجلل بالقداسة والخلود, ويثير الحلم بالعودة إليه, أو بدخوله, وهو حلم سوف يتناسل ويمتد عبر أزمنة متعددة خلال نوع من القلب التاريخي( حيث يغدو الماضي الذي ولي, مر وانقضي, مرتبطا بعصر ذهبي لا يماثله أي عصر لاحق, وحيث يظل يخايل ذاك العصر الذهبي الجميع, في كل العصور, إذ يغدو مناط حلم متصل, مستمر, باستعادته). وفي الزمنين( الماضي الذي كان حاضرا, القصير والعابر, داخل البيت, ثم الحاضر الممتد, عبر دورات زمنية متكررة بالرواية) يظل البيت الكبير موسوما بمعالمه المائزة التي لا ينفصل عنها ولا تنفصل عنه: وجود الأب الحكيم المهيمن, والحديقة داخله, والأسوار الشاهقة التي تحيط به وتعزله عما حوله, بما يجعله, طوال تلك الدورات, نائيا عن العالم المترامي, الواقع خارجه في الزمن والمكان معا, وإن بدا في الوقت نفسه متاخما لهذا العالم, مشارفا لحدوده.
بيت الجبلاوي
في الزمن الأول والمكان الأول, حينما كانت الحارة خلاء, لم يكن قائما إلا البيت الكبير الذي شيده الجبلاوي كأنما ليتحدي به الخوف والوحشة وقطاع الطريق( الرواية, ص11). ولكن البيت الذي أنشئ بهذا الدافع جاوزه إلي آفاق أخري بعد انتفاء كل خوف ووحشة, وبعدما لم يعد هناك قطاع طريق أو غيرهم ممن يمكن أن يأبه بهم الجبلاوي الذي تصوره الرواية بمقاييس وقدرات تتجاوز المقاييس المألوفة. كان البيت الكبير, من البداية, خاضعا لسمتين متجاورين كامنتين في شخصية الأب, يقرن الراوي بينهما ويشير إلي أثرهما في أهل البيت: قوته وحكمته( انظر الرواية ص17). وكان البيت الكبير, من البداية أيضا, مقرونا بشذي الرياحين, علامة حديقته التي كانت جزءا أساسيا من تكوينه. في هذه الحديقة كانت سعادة أدهم بالجلوس بعد الفراغ من عمله, قبل أن يخرج مطرودا منها ومن البيت. يخرج أدهم, إذن, من البيت( وكان قد سبقه, مطرودا أيضا, أخوه إدريس, كما خرجت مع أدهم زوجه أميمة, وقبل هؤلاء خرج رجال ونساء غير معروفين تشير إليهم وإليهن الرواية). وبهذا الخروج من البيت لن نكون هناك; سيكون في أغلب مساحات السرد بالرواية البيت غائبا والحديقة حلما بعيدا والعودة إليهما أملا مرتجي. وقبيل موته, سوف تمتلئ عينا أدهم بالدموع, إذ يري أن ضحكة الطفولة استحالت مع الأيام عبوسة غارقة في الدمع( ص110), وفي مشهد احتضاره الأخير, المتغيم, الماثل بين ما يراه وما يخيل إليه أنه يراه, سيرنو أدهم إلي باب كوخه الذي ينفتح عن أبيه, ويقول فيما يقول لهذا الأب الذي أتاه زائرا وبدا وكأنه قد عفا أخيرا عنه : كنت أهفو للغناء في الحديقة( الرواية, ص149). وبعد موت أدهم سوف يهفو إلي هذا الحلم نفسه كثيرون ينتمون إلي أجيال تالية, يتحدثون عن البيت الكبير وعن الغناء في حديقته, وعن التوق إليهما, من خارجهما.
يقترن البيت الكبير بأسراره, يحوطها انغلاقه بأسواره العالية, وتؤكدها أسطورة غموضه التي تستثير الكثير من الفضول وتثير العديد من الأسئلة والتساؤلات حول من فيه وما فيه. يلوح البيت الكبير, دائما, في مواجهة الحارة, مستعليا, منطويا علي زمنه القديم الثابت, المتجدد مع ذلك, الأبدي تقريبا, كأنما هو خارج الزمن. يشير الراوي كثيرا إلي صمت هذا البيت وانعزاله اللذين قد غدوا جزءا من معالمه: البيت الكبير ما زال قابعا وراء أسواره غارقا في الصمت والذكريات( ص309), البيت الكبير(...) الغارق في صمته كأنه لا يبالي بصراع الأجيال من حوله( ص426),.. أما البيت الكبير فقام في صمت منطويا علي ذاته كأنما لا يربطه سبب بهذا العالم الخارجي( ص62), وسوف يستمر صمت البيت وعزلته حتي آخر نقطة زمنية تنتهي إليها الرواية, إذ يقول الراوي عن هذا البيت, في زمن الوقائع الأخير, الذي ينتمي إلي وقت تسجيل حكايات الحارة: وكم وقفت أمام بابه الضخم(...) وكم جلست(...) غير بعيد من سوره الكبير فلا أري إلا رءوس أشجار التوت والنخيل تكتنف البيت, ونوافذه مغلقة لا تنم علي أثر للحياة( الرواية, ص6). لكن البيت الكبير رغم انفصاله وانغلاقه وصمته وانعزاله, يظل ملاذا وملجأ لأولئك المتروكين, خارج بابه المغلق, تحت رحمة المتجبرين, ينادون صاحبه دوما وإن بدا بعضهم يائسا إزاء إمكان الاستجابة للنداء, كما يظل هذا البيت عزاء لأهل الحارة إذ يجعلهم قادرين علي مواصلة الاستمرار في حياة باتت حافلة بشرور طاردة لأسباب البقاء( من ذلك نقرأ عبارات مثل: ولا عزاء لنا إلا أن نتطلع إلي البيت الكبير ونقول...إلخ, ص7, و:..علي ذلك فنحن باقون, وعلي الهم صابرون. نتطلع إلي مستقبل لا ندري متي يجيء, ونشير إلي البيت الكبير ونقول.. إلخ, الرواية ص117). وقد يتصل هذا العزاء أحيانا بنوع من أنواع الشكوي والاحتجاج أو التساؤل اليائس( في هذا المنحي نجد عبارات للراوي مثل: كلما ضاق أحد بحاله, أو ناء بظلم أو سوء معاملة أشار إلي البيت الكبير(...) وقال في حسرة: هذا بيت جدنا, جميعنا من صلبه, ونحن مستحقو أوقافه, فلماذا نجوع وكيف نضام؟!( الرواية, ص5). وأيا كانت الشكوي, وأيا كان النداء, وأيا كانت الاستجابة لهما أو عدم الاستجابة, يظل البيت الكبير ماثلا هناك في مواجهة الحارة, منعزلا عنها في المكان وإن بدا قريبا قائما علي رأسها, ومنفصلا عنها في الزمن وإن كان زمنه القديم, المتصل, مفتوحا علي كل الأزمنة. لا سبيل لدخول هذا البيت والغناء بحديقته وإن ظلت نفوس الكثيرين تهفو إلي ذلك, ولا سبيل لقطع الحبل السري الموصول به, أو لفصم الإحساس بالانتماء إليه, وإن ظل هذا البيت دائما غير مكترث بأي صلة تربطه بأحد.
(6)
في رواية( أفراح القبة) يندرج البيت القديم في تناول خاص, يجعله من جهة موضع تأمل وإعادة تقويم, إذ يتيح رؤيته خلال أكثر من وجهة نظر( والرواية تعتمد بناء تعدد الرواة الذين يقصون أحداثا واحدة تقريبا من زوايا مختلفة), ثم يجعله من جهة أخري تعبيرا عن التحول, بموازاة تحولات أخري اعترت العالم الأكبر المحيط بهذا البيت وبساكنيه.
الإشارات إلي البيت القديم تتفاوت وتتنوع وتتباين خلال الروايات المتعددة التي يسوقها الرواة المختلفون داخل الرواية: طارق رمضان, كرم يونس, حليمة الكبش, عباس كرم يونس. وعبر هذا التنوع والتباين نشهد وجوها متعارضة للبيت; يشير إليه طارق رمضان إشارة مقتضبة, تحتوي بداخلها زمنا طويلا حافلا بأحداث شتي, كأنها عنوان مختزل لتلك الأحداث: والبيت القديم رابض مكانه بما يطويه في صدره من تاريخ أسود وأحمر( الرواية, ص11). وحليمة الكبش, التي عاشت في هذا البيت القديم ولم تنتم أبدا إليه, فضلا عن أنها لم تحبه( كان لها بيتها القديم الآخر, هو بيت الهنا بالطمبكشية بتعبيرها. انظر الرواية ص90), تري أن هذا البيت محض مكان للعربدة, المعربدة يتسللون إلي بيتنا العتيق بليل( الرواية, ص116); تحيا في هذا البيت وهي تشعر أنه مقيت: وكم أشعر بالتعاسة وأنا أنظف البيت القديم الكريه..( ص85), وتخاطب ابنها في مونولوج متصل: إنك النور الوحيد في هذا البيت القديم الغارق في الظلام...إلخ( ص103).
أما هذا الابن, عباس كرم يونس, فهو أكثر الرواة اقترابا من عالم البيت وارتباطا به, وهو أيضا أكثرهم تأثرا بتحول هذا البيت وتغيره وأكثرهم معاناة من هذا التحول والتغير. يتوقف في بداية روايته وقفة مطولة عند البيت, يستعيده ويسترجع تفاصيله في زمن طفولته ونموه الأول: البيت القديم والوحدة هما رفيقا عمري الأول. أحفظه عن ظهر قلب. بوابته مقوسة الهامة. شباك المنظرة ذو القضبان الحديدية,(...) أجول فيه وحدي, وصوتي يتردد بين أركانه مستذكرا درسا أو مسمعا شعرا..( انظر الرواية ص125). إلا أن هذه الصورة ليست هي الوحيدة التي يتصورها عباس للبيت. سيتحول البيت فيما يري إلي صور أخري بملامح متغايرة. لقد كان ذلك البيت, وقت الوفاق بين والديه, بيت الوحدة ولكنه بيت الوئام أيضا( انظر الرواية ص127), وفي زمن آخر, تدهور الحال, العلاقة بين الأم والأب] حتي انفصلا تماما فاستقل كل منهما بحجرة, وبهذا الانفصال, فيما يقول كرم تفتت البيت. بتنا سكانا غرباء في طابق واحد( ص135,134). وإذ يفتح الأب البيت للغرباء, تتغير ملامح البيت باتجاه يجاوز حدود تفتت العائلة, إذ يفقد ما به من احترام( انظر الرواية ص138), ثم يغدو غنيمة في يد السفلة( انظر الرواية ص142), إلي أن يلوح في النهاية وقد استبيح استباحة كاملة: لقد جعل, الأب] من مأوانا العتيق بيت دعارة( الرواية, ص139), البيت القديم(...) تدهور فأصبح ماخورا( الرواية, ص160, وانظر أيضا ص139). وبانتهاء تحول البيت, باكتمال انحداره, تفيض بعباس رغبة في أن يهجر هذا البيت الملوث الكئيب( انظر الرواية ص143). لم يفقد البيت القديم, فحسب, ملامحه الأولي الجميلة, بل غدا مقرونا بدلالات المعاناة والمكابدة والعذاب( انظر إشارة عباس إلي عذاب البيت القديم, انظر ص163,162). بانتقاله إلي خارج البيت, وبتطلعه إلي حياة جديدة وهواء نقي بكلماته( انظر ص159), سوف يري عباس في البيت, وقد تباعد عنه, جانبا آخر متاحا للاستكشاف, إذ يجعله موضوعا للفن حين يشرع في التخطيط لمسرحية محورها البيت القديم الماخور, لقد انبثقت فكرة جديدة. ليكن البيت القديم هو المكان, ليكن الماخور هو المصير..( الرواية, ص169). وإذا كان خروج عباس من البيت, ثم اتخاذه إياه مادة لعمله الفني, يتيحان علي سبيل الافتراض إمكانا لرؤية هذا البيت من زاوية جديدة, فإن عباس, علي مستوي ما, كامن في روحه, لن يصل أبدا إلي شئ من هذا في علاقته بذلك البيت القديم. صحيح أنه الآن خارج البيت, قادر علي أن يعيد تشكيله فنيا من جديد, وصحيح أنه أصبح يتنفس الهواء النقي الذي كان يتوق إلي تنفسه, ولكنه حتي في عالمه هذا, الذي يبدو نائيا عن حدود البيت القديم, لا يزال يحمل هذا البيت بداخله, أو لا يزال أسير الحركة داخل مجال سطوته. إنه, رغم المسافة التي قطعها وباتت تفصله عن هذا البيت القديم, يظل يخطر له أن يلجأ إلي باب الشعرية حيث يقبع ذلك البيت, إذ إنه, في عالمه الجديد, يشعر بأنه يتيم وبلا بيت أو حي( الرواية, ص176).
(7)
وفي رواية( الباقي من الزمن ساعة) تتولد مفردة البيت القديم من مفردة الصورة الثابتة التي تقوم بتجميد مشهد الزمن عند لحظة بعينها في مكان بعينه; ولكنها لحظة قابلة للتفاعل, ومن ثم للحركة, مع من مر ويمر بهم الزمن خارجها, خلال تطلعهم إلي هذه الصورة واستعادة زمنها ومكانها. تبدأ الرواية بتلك الصورة الثابتة القديمة التي تتأملها سنية المهدي; تراها وتتذكر تاريخها المحدد, عام1936, وتومئ في مونولوجها الداخلي إلي أن ذلك التاريخ كتب له الخلود للحظة زمانية من تاريخ أسرتها..( الرواية, ص5). وخلال التحديق في وجوه أفراد الأسرة في الصورة, يخرج الراوي الموازي لسنية المهدي, البنت( ثم الأم/ فالجدة, الآن), من زمن الصورة القديمة ومكانها إلي زمن البيت القديم ومكانه, ثم إلي أزمنة أخري اجتازها هذا البيت واجتازها من عاشوا فيه. فداخل الصورة لا يظهر(...) أثر للزمن, وخارج الصورة لم يتوقف الزمن لحظة واحدة, ومن ضمن ما قضي به عدم التوقف هذا ألا يبقي في بيت الأسرة اليوم إلا مالكته سنية المهدي وكبري ذريتها كوثر. وهو بيت فسيح, مكون من دور واحد وحديقته تمتد من جانبه الجنوبي..( الرواية, ص6), ثم يشير الراوي إلي مشيد البيت, والد سنية, عبد الله المهدي, وإلي عالم سنية الأول القديم بهذا البيت, قبل أن يستكمل رحلة طويلة قطعها البيت وقطعتها سنية, حتي باتا, اليوم, وحدهما, تمثيلين لزمن غابر في زمن جديد راهن.
تناول البيت القديم بالرواية ليس مرتبطا بالخروج منه, لكن بتدهوره وتآكله البطيء مع الزمن الذي مر, والذي يختزله الراوي خلال إشارات متناثرة إلي عناوين مفصلية, باتت جزءا من معالم التاريخ: مطلع ثورة1919, إلغاء معاهدة1936, حرب فلسطين, الإعلان عن ثورة1952, صراعات رجال الثورة, العدوان الثلاثي1956, وحدة مصر وسوريا, جنازة مصطفي النحاس, تنحي جمال عبد الناصر عن الحكم, الانفتاح والغلاء في السبعينيات, زيارة السادات لإسرائيل..إلخ. وبموازاة هذه الانتقالات خلال هذا الزمن الممتد, يمر البيت بتحولات شتي. يخرج منه من يخرج, ويختفي من يختفي, ويجي إليه من يجيء, أو يرجع إليه من يرجع. تتغير وجوه ساكنيه, جميعا تقريبا, باستثناء وجه سنية الثابت. وخلال ذلك كله يتآكل البيت, ركنا فركنا وشيئا فشيئا, بحيث يغدو, في النهاية, جنة عبثت بها فشوهتها يد الإهمال أو أياديه المتعددة. تشعر سنية أن هذا البيت ليس علي مايرام. إنه يطعن في القدم دون رعاية ولا عناية. ها هي تتجول بين الحجرات والحديقة, تنظر وتتفحص, بهتت الألوان, تقشرت الجدران(...) ذبلت الحديقة وملأتها الوحشة.. إلخ( الرواية, ص31); تتساءل, دونما إجابة, عن الكيفية التي يمكن بها أن تتدبر تكاليف تجديد البيت: كيف يستعيد البيت شبابه؟ سيمسي ذلك حلما لا يتحقق إلا بحلم( الرواية, ص42), بل تتساءل أحيانا متشككة: والبيت هل يتجدد حقا؟( ص192).. لكنها محض تساؤلات; لا توقف تدهور البيت ولا تقاوم تغيرات العالم من حوله.
خارج البيت القديم وخارج تساؤلات سنية المهدي, لكن غير بعيد تماما عنهما, يتحول العالم بسرعة لاهثة, بما يمثل تهديدا حقيقيا للبيت القديم ولكل بيت قديم يشبهه. يتم, مثلا, هدم بيت قديم آخر, كان مواجها لهذا البيت, لتستوي مكانه عمارة كبيرة انقض عليها عدد كبير من السكان لا يعرف بعضهم بعضا ولا يتحمسون لمعرفة أحد. وسوف يقول من يقول: هذا مصير بيوتنا الكبيرة القديمة( انظر الرواية ص26). وداخل البيت, تباعدت وتتباعد المسافة بين عالمه الراهن وتلك الجنة القديمة التي كانها وكانته, لم يعد لها ولم يعد منها وجود سوي في ذاكرة سنية المهدي فحسب. لا تستطيع سنية أن تتناسي تلك الجنة أبدا, كما لا تستطيع أن تستعيدها أبدا. تحلم بترميم الحديقة وتجديدها; تجري بعض الإصلاحات لهما, وتسر بما قامت به, ولكنها تتساءل في النهاية: أين هذه الحديقة الفقيرة من الجنة الموعودة؟!( ص161); تظل هذه الحديقة في خيالها فردوس وأما في الواقع فأرض تخددها الحفر( الرواية, ص192)
كم تناءت, هنا وهناك, في روايات نجيب محفوظ, جنة البيت القديم عن زمنها الأول, وكم تباعد عالم البيت القديم نفسه وأوغل عهده الغابر في غياب, حتي وإن بدا ذلك البيت نفسه ماثلا في الزمن, قريبا في المكان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.