لما علت الأصوات بالوقائع والأسئلة ومحاولات الفهم واستشراف النتائج, تنهدت بعفوية. هذا هو توقعي. عملت في خدمة الرجل, تابعت خطبة وتصريحاته وتصرفاته, اطمأننت إلي حكمي عليه, وإن احتفظت بما في نفسي, عملك في باب العزيزية, يجعلك هدفا قريبا, العشرات من الذين عارضوه, أو تمردوا عليه, غيبوا, ألقوا في الحامض, فلا يبقي منهم شيء, يجيب عن الأسئلة القلقة. لم تستدل الشرطة علي مكانهم! أدركت أن في الأمر مايخيف, حين حلمت بك في نومي, القامة النحيلة, الطويلة, خصلة الشعر المتهدلة, العينان النيتان الواسعتان, الشارب الخفيف. أنت في أزمة إذن, في حصار تعاني غياب القدرة علي الإفلات منه. الإحساس بالذنب يدفع الي البوح, يروعني ماأسمع, أتلفت بالحيرة, تطاردني النظرات المتسائلة, والمندهشة, كنت قريبا من الرجل: هل اعترضت علي تصرفاته؟ هل ابديت ملاحظات؟ لماذا لا أعلن موقفي؟ أتظاهر بالشرود, اتقاء النظرات التي تتوقع رفضي لأفعال الرجل, وإدانة جرائمه. لست متخاذلا كما تنطق الأعين في إدانة النظام. ماكتبته يدافع عني, يوضح مواقفي. النظرات تحوطني, تنطق بالاتهام, أرفض الإعلان عن موقف, التأييد أو الإدانة, إيثارا لسلامتي الشخصية, وطلبا للأمان, كانت تجد في اقترابي من الرجل مالا يتسق مع الأخبار التي أسربها إلي الصحف, وأرددها وأنت معي في لقاء خواصي. الملاحقات والمطاردات والأفعال الشنيعة, ماأرويه عن السراديب والأنفاق والأقبية, العيش تحت دنيا البشر. أواجه النظرات بالقول إن سلامتك الشخصية هي مايهمني. أغمض العينين تعبا, لكنهما تطلان علي مايغيب من حولي. البناية ذات الطوابق الثلاثة في تقاطع السوق والساحة الخضراء. ترفع كما ألفت مصراعها الزجاجي, تهز راحتيك بمايعني طمأنتي, وأن أبدي تخوفي من أن يسقط جسدك الذي تدلي رأسه, تتابع المواكب التي ترفع الأعلام الخضراء في قدومها من شارع عمر المختار إلي الساحة الخضراء, ترافقها شعارات وهتافات. تشي نبراتك بالحيرة؟ الناس يهتفون له في الشوارع, وأصدقاؤك يلعنونه في جلساتكم يعرفون الحقيقة. أضفت في لهجة محذرة: الوشاة في كل مكان. تعيد تفسير ماحدث في تذكر كلمات سابقة. نصيحتي أن تتحقق ماإن كان من يصادقك عضوا في اللجان الشعبية. هو إذن عين تلتقط ماتقوله, أوتفعله. ربما شغلك السؤال: لماذا انضممت إلي اللجان الشعبية؟ هذا هو شرط الاقتراب من الرجل, ووسيلة الطمأنينة كي تعمل حيث يقيم قلت لي وأنا أهم باحتضانك: اللقا نصيب. هل كنت تقصد مالم أدركه ؟ أطباق الفضائيات تعلو بنايات طرابلس, تشي بالحياة الجديدة التي نعيشها. نطل علي العالم, نتابع أخباره, نتخلل نسيج أحداثه, هو العالم الذي ننتمي إليه, لكنك لاتري في باب العزيزية سوي الصوت الواحد. أعرف أنك لاتشاهد, من غير المسموح لك أن تشاهد, إلا تليفزيون الدولة, يبث وجهة النظر الواحدة, ترفض المغايرة والاختلاف. لو أنك شاهدت قناة أخري, في بلد آخر, سيطالعك المخفي في العتمة والظلال. لا أتصور أني أعود إلي باب العزيزية, وإن كنت أحن إلي طرابلس: أخترق الشوارع والأسواق وطريق الكورنيش والطرق الصاعدة, والهابطة, والبيوت الحديثة والبنايات الحجرية والصفراء ذات التجاويف الهائلة وأفق البحر. أغمض عيني, أتخيل أين أنت. تمنيت لو اني إلي جانبك في هذه الأوقات الصعبة. تتقاسمني مشاعر الخوف من أن تواجه ماأرفض تصوره, والإصرار أن أمضي في الطريق إلي نهايته. قال لي عبد الباسط الكيلاني: افعل ماتطمئن إليه. خوفي علي مهاب يقيد حركتي. هل هذا هو السبب؟ تستطرد للغضب في ملامحي: لابد أن يترك الولد باب العزيزية. أظهر الحيرة: كيف؟ دلت الكلمات في أحاديث التليفون, حاولت التعبير عن المعني, أفطن الي التنصت والملاحقات والمكائد. لن يوجهوا أسئلة, ولن ينتظروا أسئلتك, يأخذون بالظن والشبهة, ربما تجد نفسك متهما, ومحكوما عليك, قبل أن تعرف حقيقة التهمة, وما إذا كانت تستحق العقاب الذي أرفض أن أتصوره. حاول أن يجعل من الأسوار فواصل بين المدينة والحي, ناس المدينة وناس الحي, تقتصر الحياة داخل الأسوار علي من يتم اختيارهم بواسطته شخصيا, أو بواسطة لجان تسأل وتدقق, وتفرض المحاذير. تقتصر الإقامة علي من يثق في ولائهم: موظفين وضباطا وجنودا وعلماء دين وأعضاء في اللجان الشعبية. كنت في طرابلس قبل أن تلزم باب العزيزية, أنت لا تعرف ما قبل ذلك لأنك لم تعشه. تابعت إنشاء الحي من بداياته, يذكرني بمدينة المختارة التي أنشأها صاحب الزنج زمن العباسيين. شاهدت إزالة سوق الثلاثاء, والأحياء السكنية المتلاصقة. كي يتاح الأمن للمدينة الحصن. امتد الحي, توسع, ضمت الكيلو مترات الستة, المئات من الأبنية الضخمة ومؤسسات الحكومة ومعسكرات الجيش الوطني والأسواق والحدائق والأسوار الأسمنتية والبنايات والمنشآت والأنفاق والمخازن والمستودعات. فرق الحراسة, وفرق المشاة وقواعد الصواريخ والدبابات والطائرات. شبكات الأنفاق التي تربط باب العزيزية بما وراء الأسوار. بيت الرجل في داخل باب العزيزية, الحصن تحيط به ثلاثة أسوار أسمنتية مضادة للقذائف ثلاثة خطوط مدفعية وصواريخ جراد, قوات مشاة ودبابات وطائرات, مهمتها قطع الطريق علي أية محاولة لاقتحام طرابلس. في الداخل. أجهزة للبث التليفزيوني والإذاعي, غرف للتحكم في جميع شبكات الاتصالات. في أسفل, شبكة أنفاق تربطها بالخارج, بها مخازن وقود ومواد غذائية وصناديق أدوية وأجهزة تشويش وبث إذاعي وتليفزيوني. المطار نهاية الأنفاق. سر لا يعرفه إلا القلة من خواص الرجل, بصرف النظر ما إذا شغلوا مناصب مهمة. أعرف ما تعانيه: ثلاث بوابات أحكمت حراستها. الدخول والخروج ببصمة الأصابع, التفتيش اليدوي, ومن خلال جهاز الكشف عن المتفجرات. عدسات المراقبة وأجهزة الاستشعار عن بعد. التفتيش الشخصي الذي لابد أنك عانيته كثيرا. صلتي بالرجل لم تتح لي أن أشاهد مخبأة, قلعته الحصينة, صممت اتقاء الهجوم النووي, والأسلحة البيولوجية والكيماوية. أعرف أن المخبأ أعد ليظل فيه, لا يتركه, حتي ينتهي الخطر. لو أني كنت أملك التوقع, كنت أتردد في تزكيتك للعمل بباب العزيزية. المواقع كثيرة لمن يجيدون الحاسب الآلي, تصورت العمل داخل الأسوار فرصة ينبغي ألا نفلتها. منصبي داخل أسوار العزيزية يتيح لي التنقل بين مدن العرب, ومدن العالم الأخري, تدفعني الثقة, والرسائل التي أحملها بين قصر الحاكم, ومؤسسات السياسة, ما أملكه من حرية الحركة والتنقل, يصعب حتي أن أشير به عليك. لابد أن تطمئن إلي خطواتك أولا. حرصت أن تظل مشاعري مخفية, لا تبين في كلماتي, أو تصرفاتي. صمتي عن الإغراق في الحامض لا يعني الموافقة. قربي من رأس السلطة لا شيء أمام تشمم رائحة التآمر ضدها. لا أحد فوق المساءلة, الكل متساوون في تلقي الأوامر, والخضوع, والبعد عما يثير الشبهات. أعوانه ينفذون أوامره, لا تشغلهم الي أين تتجه رصاصاتهم, لا قيمة لقرابة ولا صداقة ولا وظيفة مهمة, يرهفون آذانهم للهمسات التي قد لا تلفت الانتباه. الشرطة السرية تلاحظ اندماج ناس الحي بناس المدينة, المعايشة التي ربما تمليها المصادفة, لماذا؟ ما العلاقة؟ كيف يدور النقاش؟ هل تنقل الأسرار؟ ما أعرفه قد لا تلحظه أن المراقبة تأخذ صورة الدائرة, من يعش داخل الحي يخضع للمراقبة, المراقب تتبعه أعين وآذان, تجد من يراقبها, تظل الدائرة بلا بداية ولا نهاية. لكثرة ملاحقة الأسرار, وما تتهامس به المناقشات والملاحظات والشائعات. لم يعد في الحي أسرار. ما بين إفلاتك من باب العزيزية, والخروج الي الدنيا الواسعة, وبين الإقامة داخل الأسوار الستة, حكاية تخالف روايات سمعتهاعن صمتي. لماذا التزمت الصمت, فلم أعلن تأييدي للثوار؟. مهنتي الكتابة, تحضني علي إدانة ما كان يجري. لم أضق بملاحظتك إن كان تمهلي حتي يستقر المعني. ما أرجوه أن تهمل ما تسعه, تغمض العين عما تراه, تسكت عن الملاحظات التي تشغلك. أقدر شعورك بثقل المراقبة, تغالب التلفت لرؤية من يراقبك, أو يلاحقك, كل الهواتف مسجلة, ومهمة الجالسين أمام البيت, والكثير من السائرين, هي التقاط ما ينبغي نقله, موضحا بتفسيرات وشروح. حتي الخدم يخضعون لرقابة صارمة. رويت لك ما حدث ورأيته لتأخذ حذرك, هو لا يعطي حسابا لأي شيء. حتي زملاء البداية, قتلهم, أو أودعهم السجون, أو فروا بحياتهم. لم يعد مأمونا أن تظل في باب العزيزية, النظرات والتبليغات بداية الفعل, تأخذ بالظنة والشبهة. تتجه كل صباح الي عملك تحرص فلا تتأخر, ربما يواجهك السؤال: أين كنت؟ بقية اليوم لا تغادر البيت إلا لضرورة. الأعين تلاحقك, الأعين مبثوثة داخل الأسوار الستة, آلات التنصت داخل مقار اللجان الشعبية والبنايات والمقاهي, وفي الساحات والخلاء, كاتبو التقارير والوشاة يملأون العزيزية, يتأملون الملامح, يعنون بتسويد الأوراق, يفتشون الزوايا والأركان. الصمت ضرورة كي يبدو العيش في باب العزيزية مقبولا, لا تخشي المفاجأة. حيرتك في فهم موقفي لابد أن تنتهي بغلبة أحد الطرفين, فأعلن موقفي. يظل باب العزيزية علي حاله, فتمضي الحياة في نحوها المألوف, إذا كشف الخطر عن ملامحه, فإن رحيلك خارج الأسوار مقدمة لما سأعلنه من آراء. لو أنك تظاهرت بالسير في الأسواق سر منفردا إبطاء الخطوات, والفرجة, والتأمل, والاقتناء, والفصال, شراء ما تحتاجه وما قد لا تحتاجه, تميل في نهاية السور الي الطريق الجانبي, تختلط بالزحام خارج الأسوار, تستطيع الفرار من حيث تقيم, من حصارهم وملاحقتهم, تمضي الي سوق مهاري, تنسل من الزحام الي موقف السيارات داخلها. حينئذ أجاوز المأزق, القيد الذي يشل حركتي تماما. أطالع الناس بما أكتمه, ولا أقوي علي إعلانه. ---------------------------------- صدرت له العديد من الرويات منها: إمام أخر الزمان وقاضي البهار ينزل إلي البحر و رباعية بحري وهي من اربعة اجزاء هي: أبوالعباس وياقوت العرش والبوصيري وعلي تمراز وحكايات عن جزيرة فاروس وهي سيرة ذاتية وحكايات الفصول الاربعة وكوب شاي بالحليب. كما صدرت له العديد من المجموعات القصيصية منها: حكايات وهوامش من حياة المبتلي,وحارة اليهود وموت قارع الاجراس وأخبار الوقائع القديمة. ترجمت معظم اعماله إلي الانجليزية والفرنسية والماليزية.