منذ عشرين عامًا تقريبًا، في يوم خريفي من أيام القاهرة التي تتقلب بين دفء الشمس ونسمة النيل، التقيت شابًا لم يكن يشبه أحدًا من حوله. كان اسمه جمعة أبو المكارم، اسم بسيط لرجل أبسط في مظهره، لكنه كان يحمل في عينيه بريقًا غريبًا يشبه إصرار النيل على الجريان رغم السدود. كنت دوما أبحث عن رجال من مصر هم ملح أرضها ، وكان جمعة أحدهم. لم يكن يتحدث كثيرًا، لكن حين نطق لأول مرة، أحسست أن كلماته تخرج من قلبٍ مؤمنٍ بأن العمل عبادة، وأن حب الوطن ليس شعارًا بل طريقة حياة. في ذلك اللقاء الأول، شدّني فيه شيء لم أستطع تحديده وقتها. ربما كانت بساطته الحقيقية التي لا تشبه التمثيل ولا الادعاء، وربما كانت تلك الروح المضيئة التي تتحدى قسوة الأيام. كان يرتدي جلبابًا رماديًا نظيفًا رغم آثار العمل ، ويضع على كتفه منشفة صغيرة. حين تحدث عن مصر، لم يستخدم لغة الخطباء ولا شعارات السياسة، بل قال جملة واحدة لا أنساها: "بلدي غالية يا أستاذ، حتى لو الظروف مش سهلة، إحنا لازم نحافظ عليها." مرت الأعوام، ومرت مصر بظروفٍ كثيرة، من أزماتٍ اقتصادية وتقلباتٍ سياسية، لكن جمعة أبو المكارم لم يتغير. ظل هو نفسه: يستيقظ قبل الشمس، يحمل همّ يومه على كتفيه، ويواجه الحياة بابتسامة رجلٍ يعرف أن كرامته في العمل، وأن وطنه هو الأرض التي تمشي عليها قدماه. كنت ألتقيه بين الحين والآخر — مرة في عمل جديد، وأخرى في سوقٍ شعبي، أو أمام مقهى صغير على ناصية الشارع. في كل مرة كنت أجد في ملامحه شيئًا من الصلابة الهادئة التي تميز أبناء هذا البلد. لم يشتكِ قط، ولم يلعن الأيام. على العكس، كان يقول لي دومًا: "البلد دي طيبة يا أستاذ، بس محتاجة ولادها يصبروا عليها." وخلال عشرين سنة من معرفتي به، تعلمت منه أكثر مما تعلمت من عشرات من المثقفين والخبراء الذين التقيتهم. لأن جمعة لا يتحدث من الكتب، بل من التجربة، من عرق جبينه، ومن نبض الحياة نفسها. محمد ابو المكارم وطنية أبو المكارم تكشف زيف وجوه الصفوة المصرية الزائفة كثيرون من أبناء ما يسمونه 'الصفوة' يعيشون في أبراجهم العالية، ينظرون إلى الوطن من فوق، يشتكون من كل شيء، وينسون أن البلاد لا تُبنى بالنقد وحده. بعضهم يسافر ويعود ليحدثنا عن "بلاد النظام والنظافة"، ثم يقارنها بمصر ليعلن استياءه وسخريته. أما جمعة أبو المكارم، فلم يغادر أرضه إلا إلى عملٍ في محافظة مجاورة، لكنه يملك من الانتماء ما لا يملكه ألف مثقفٍ مستنيرٍ زائف. حين يتحدث عن مصر، تتغير نبرته، تلمع عيناه، ويستقيم صوته كما لو كان يؤدي نشيدًا وطنيًا من تلقاء نفسه. ذات يوم، حين اشتد الحديث عن الغلاء وصعوبة المعيشة، سألته: "يعني يا جمعة، إنت لسه شايف إن البلد دي حلوة؟" فابتسم وقال بثقة: "حلوة قوي، بس لازم نعرف نحافظ عليها. البلد دي زي العسل الأسود يا أستاذ، شكلها غامق، وطعمها تقيل، بس مليانة خير، ومغذية، وسكرها من تعب الناس." كانت تلك الجملة كأنها خلاصة فلسفة وطنية من رجلٍ لم يقرأ الفلسفة يومًا، لكنها خرجت من أعماق قلبٍ يعرف قيمة بلده رغم صعوباتها. لقد رأيت جمعة أبو المكارم يعمل تحت الشمس الحارقة وفي البرد القارس، ومع ذلك لا يفقد ضحكته ولا إيمانه. كلما زادت الأزمات، زاد إصراره. وحين كان يسمع عن بعض الذين فقدوا الأمل أو اختاروا الهجرة، كان يقول: "اللي يهاجر من مصر مش غلطان، بس اللي يفضل فيها برضه بطل، لأن اللي يصبر على تعبها يستحق خيرها." هذه الكلمات البسيطة، التي لا تحمل تلاعبًا لغويًا ولا زخرفًا بلاغيًا، كانت أعمق من عشرات المقالات والخطب الرنانة التي تتحدث عن حب الوطن. لأن جمعة يعيش ما يقوله، لا يتغنى به. كثيرون يظنون أن الوطنية أن ترفع العلم أو تغني النشيد، لكن الوطنية الحقيقية — كما فهمتها من جمعة — أن تظل مخلصًا لبلدك حين تخذلك الظروف، وأن تؤمن بها حتى وهي تتعثر. أن ترى فيها الجمال وسط الغبار، والضوء وسط العتمة. وفي كل مرة كنت ألقاه، كان يذكرني بشخصية البطل في فيلم "عسل أسود"، ذلك المصري العائد من الخارج الذي اكتشف أن بلاده، رغم الفوضى والضيق، هي الأجمل لأنها 'بلده'. جمعة كان يعيش تلك الروح حرفيًا، يرى في كل ما حوله جمالًا من نوع خاص: يرى في زحمة الشوارع دلالة على الحياة لا الفوضى، وفي ضجيج الأسواق علامة على الرزق لا الإزعاج، وفي وجوه الناس رغم تعبها ملامح الصبر والكرامة. كثيرون من المتعلمين والصفوة صاروا يتحدثون عن الوطن كما لو أنه مشروع خاسر أو عبءٍ ثقيل، بينما جمعة أبو المكارم يشبه جذور النيل القديمة، ثابت في مكانه، ممتد في الأرض، يغذيها من صمته. لم يبحث عن شهرة، ولا عن فرصة للظهور، ولا عن مقابل لحبه. كان يحب لأن الحب عنده واجب، وكان يعمل لأن العمل عنده عبادة. وحين تسأله عن أحلامه، لا يقول أريد السفر أو الثراء، بل يرد بابتسامة تقول الكثير: "نفسي البلد دي تبقى بخير، عشان عيالي يعيشوا فيها زي ما إحنا عشنا." هكذا ببساطة. جملة تختصر معنى الوطنية الصافية التي لا تُشترى ولا تُعلّم. في زمنٍ يكثر فيه الثرثرة ويقل فيه الفعل، وفي عصرٍ صارت فيه الوطنية إعلانًا يُبث على الشاشات أو وسمًا في مواقع التواصل، يقف جمعة أبو المكارم كرمزٍ صامتٍ لوطنٍ لا يزال ينبض في قلوب أبنائه الحقيقيين. إنه يمثل تلك الفئة المنسية التي تحمل مصر على أكتافها كل صباح: العامل الذي لا ينام قبل أن يؤمن قوت يومه، السائق الذي يقطع المسافات في الحر والبرد، الفلاح الذي يزرع رغم قلة الماء، والأم التي تدعو في صمت لبلدها كل فجر. هؤلاء هم "الصفوة الحقيقية" لا الزائفة التي تملأ الشاشات بالكلام الفارغ. جمعة أبو المكارم لم يقرأ كتب الوطنية، لكنه كتب سيرته بعرقه وصدق مشاعره. لم يدخل قاعات الندوات ولا جلس في مقاهي المثقفين، لكنه فهم ما لم يفهموه: أن الوطن ليس فكرة رومانسية نغني لها، بل مسؤولية نحملها فوق أكتافنا. كلما مرّ الزمن، أجد في قصة جمعة ما يجعلني أكثر يقينًا أن مصر لا تُقاس بمؤشراتها الاقتصادية فقط، بل برجالٍ مثل جمعة يعيشون فيها بكرامة وصبر. قد لا يظهرون في الأخبار، لكنهم أساس هذا البلد، وجذره العميق الذي يمنعه من السقوط. وها أنا بعد عشرين سنة من معرفتي بهذا الرجل، أكتب عنه لا باعتباره صديقًا فقط، بل رمزًا لذلك المصري الصامد الذي لا يعرف اليأس ولا يساوم على حبه لبلاده. رجل من ملح الأرض، لكنه أغلى من الذهب. رجل لا يملك إلا عرقه، لكنه يملك ما لا يُشترى: إيمان لا يتزعزع بأن مصر، رغم كل شيء، ما زالت عسلًا — حتى لو كان عسلها أسود.