الحافلة وقت الظهيرة كابوس حقيقي ، وحش كاسر يفتك بضحاياه ، ساحر وغديأسر المشاعر ويتلاعب بالاجساد .. يترك الجميع اشباه بشر بأنفاس لاهثة وعيون مرهقة وملابس مبعثرة .. هنا لا مجال للتعاطف و الاعتذار و الاستئذان والي أخر تلك التعاملات الانسانيه الاخري .. هنا تضرب الامثال بالحماس البشري في تحقيق الاهداف .. الجميع بلا استثناء لديه الاستعداد التام لأن يضغط علي قدمك ويدفعك في ظهرك من اجل ان يهبط في محطته قبل انصراف الحافلة .. بلا كلمة اعتذار واحدة ، بل لديه استعداد تام لأن يقطع قدمك التي تعوقه عن الحركه او حتي يلقيك من النافذة اذا استلزم الامر حتي لا يتأخر في الهبوط ..! الانجاز الحقيقي هنا ان تجد مقعدا شاغرا لتجلس فيه .. والمعجزة الفعلية هي ان تجد العقل القادر علي تأمل اي شيء وسط كل هذه الفوضي .. حتي انني ظللت طوال عمري اتعجب من هؤلاء الذين يقرأون الجريدة في الحافلة .. وفي الماضي كنت اتصور انهم جزء منها !! لاريب ان هؤلاء لايركبون من اي مكان وايضا لايهبطون في اي مكان .. هؤلاء ليسوا من هذا العالم .. !! انا هنا اكون عاجزة عن مجرد التنفس .. واجد كل من حولي غارقا في خضم عجيب من العرق و الترقب و ضيق الصدر ، ثم انظر الي هؤلاء لأجدهم بالفعل في عالم اخر .. المهم أنني اليوم فعلتها لا اعرف كيف لكنني بقوة الدفع لا أكثر وجدت نفسي بالفعل فوق احد المقاعد و وجدتني بحركة غريزية اضع حقيبتي علي المقعد المجاور لأعلن بذلك انه محجوز لعمي الذي لايزال محشورا في المقدمه .. وصل اليّ بوجهه الذي يتحدي ببسمته كل قوانين الحافلة .. جلس الي جواري ببساطة .. عدل قميصه .. و مرر اصابعه في خصلات شعره الفضية اللامعة .. موظف هو في شئون الطلبة في كليتي .. و كما كان منذ طفولتي ، ساعدني في كل شيء تقريبا منذ ان التحقت بكليتي لدرجة انني كنت اشعر ان أمي تزوجت من أحد الاساتذة وليس من موظف بسيط .. لكنه كان واثقا، ثابتا ، هاديًء، و يعرف ما يجب عمله دائما .. وكنت حتي فترة بسيطة جدا اناديه (ابي ) لانه لم يشعرني ابدا انا و اختي بغير ذلك .. كان دائما موجودا من اجلنا .. صبورا .. عطوفا .. متماسكا .. افقت من تأملاتي لأدرك أن الحافلة مكان مثير جدا للتأملات ... وانه من الممكن بالفعل ان تفكر فيما تشاء مادمت جالسا لتري في اي مركز قوة انت الان والجميع يشعرك بقيمة المقعد الذي تجلس عليه .. انتبهت لاسمع صوته الهاديء يقول .. وهو يمد ساقه قليلا ليخرج من جيبه منديلا ورقيا .جيد اننا انتهينا من تقديم اوراقك اليوم .. هكذا يمكننا الحصول علي عطلة لبقية الاسبوع .. رفع يده الممسكه بالمنديل ليجفف عرقه الذي بلل خصلات شعره فبدا كما لو انه قد غسل وجهه توا ، وانا اهز رأسي مؤمنة علي كلامه .. فتحت شفتي لأقول شيئا ما .. عندما ..... تعثر احد الركاب الواقفين الي جوار عمي .. وكاد يسقط فوقه ، لولا ان تشبث به هو في اللحظه الاخيره قائلا : -معذرة .. قالها في اقتضاب .. بعد ان تلاقت نظرات ثلاثتنا للحظة واحدة .. لحظة واحدة .. بعدها تماسك هو في وقفته .. كان يحمل حقيبة جلدية سوداء تبدو قيمة لكنها قديمة .. قديمة كعاطفة ادمتها السنون .. -لا عليك .. قالها عمي في بساطته المعهودة وابتسامته الابدية .. مد يده محاولا التقاط الحقيبة من الرجل ليضعها علي قدميه ليتيح للرجل وقفة اكثر راحة .. لكنه الرجل- تمسك بحقبيته بكبرياء دون ان يعلق .. نظر الينا مرة اخري ببرود ثم عاد ينظر الي النافذة المواجهة له في شرود .. تلك اللحظة / النظرة جعلت قلبي يخفق بجنون .. تصببت عرقا وانا انظر اليه وإلي عمي في هلع .. لم يلحظه هذا الاخير .. لم اجرؤ علي القاء نظرة اخري عليه .. تشاغلت بالعبث في حقيبتي .. بالنظر الي النافذة .. بالنظر الي ما اسفل قدمي .. خيل اليّ ان خفقات قلبي اصبحت أعلي من خفقات قلب (بو) الذي كشف السر .. مؤكد انه يسمعها الان .. !! حاولت ان التفت لالقي عليه نظرةً اخري ..لكني لم اجرؤ .. اكتفيت بالنظر الي انعكاسه المشوه علي زجاج النافذة .. سيتعرف علي الان لتحدث الكارثة .. سيسمع خفقات قلبي المذعور الذي يعترف بذنب لم اقترفه .. اهدأ يا قلبي ارجوك ... اهدأ ! اهدأ ! القيت نظرة سريعه علي عمي لارصد انفعاله .. لكني وجدته كما هو هادئاً ..باسما .. ينظر الي الامام .. كنت ارتجف الان .. رفعت عيني لأنظر نحوه من جديد .. نحو ابي .. لكني ايضا وجدته كما هو .. ينظر الي النافذه بذات الشرود .. لا ادري كيف حدث هذا .. لكنه التفت اليّ في اللحظه نفسها .. وتلاقت نظراتنا من جديد .. لكن .... لم يحدث اي شيء .. !! انا اذكره جيدا منذ خمسة عشر عاما .. ذات الملامح والنظرات وكأنه كان معنا بالامس فقط .. لكن .. هو لم يرني منذ تلك الفتره كلها .. لم نعلم عنه اي شيء .. وبالمقابل لم يعلم هو ايضا عنا اي شيء .. لكني توقعت بذات الغريزة التي جعلتني اتوقف عن مناداة عمي بلقب ابي .. انه سيتعرف عليّ .. سيعرفني من بين الف فتاة .. !! ازدادت خفقات قلبي وعلت .. لكن بعاطفة مختلفة .. اخذت احاصره بنظراتي اكثر واكثر .. لكنه تنهد بصبر .. ويمم وجهه للنافذة الاخري .. اختلط عرقي بدموع عجزت عن حبسها فانهمرت لتغمر كياني كله .. لم اشعر بالزحام والاصوات المتعالية والفوضي العامة .. والحافلة تتوقف في محطتنا نحن .. عمي يجذبني من يدي برفق لانهض والحق به .. سألني عن سر شحوبي وعرقي ودموعي المباغتة في قلق .. مسحتها وانا اجيبه في صلابة : -لا شيء يا ابي .. انها غصة عابرة .. الزحام سبب لي شعورا بالاختناق .. حياة عمي بهزة رأس .. وهو يجلس مكانه .. وشعرت به يتابعني بنظرات لا ادري اهي حائرة ام شاردة .. !! وقبل ان اهبط التفت اليه .. فوجدته لايزال يتابعني بذات النظرات .. وشعرت بقلبي يخفق مجددا ..ولدهشتي .. ولا ادري ان كان ذلك وهما ام حقيقه .. لكني سمعت شيئا ما .. و رأيت علي وجهه انفعالا ما .. لكن .. الحافله كانت مزدحمة بحق .. الجميع غارق في بحر من الضوضاء والعرق .. هبط الي الشارع ايضا بقوة الدفع كما صعدت بها من قبل .. امسك (ابي) بيدي وهو يسرع الخطي معي لنعبر الشارع .. غير عالم او منتبه لما طرأ عليّ في الحقيقه .. وهو انني غيرت رأيي في كل شيء .. حتي .... الحافلة !!!