في أول مرة يدخل فيها إلي البلاتوه ينبهر أستاذ التمثيل المسرحي بذلك العالم الساحر الذي يعيد تشكيل رؤيته للحياة ، ويبقي ذلك المشهد العبقري الذي أداه الفنان محمود حميدة في فيلم "ملك وكتابة" عالقا في ذاكرتي البصرية، بينما تتسع عيناه في انبهار يشبه طفلا صغيرا يدخل عالم الحواديت، ثم تتوالي الأحداث التي تؤدي لتطور الشخصية التي تعيد اكتشاف ذاتها وقوفا عند واحد من أهم الحوارات التي يكتشف فيها البطل أزمته في اعتراف أشبه بالمنولوج متحدثا عن مخاوفه وأحدها رهبته من عالم الكاميرا الذي دفعه للهروب منها بينما يقول: خوفي من التمثيل سميته رسالة التدريس السامية، ثم ليتجاوز أزمته أيضا أمام الكاميرا بينما يؤدي أحد أدواره وتظل جملته تتردد كثيرا حاملة فلسفة المكاشفة والاعتراف الرؤية الداخلية: مكنتش شايف ولا مكنتش عايز أشوف .. ومن دوره في فيلم "ملك وكتابة" إلي دور آخر لا يقل عنه روعة والذي ارتبط أيضا بعالم السينما في فيلم "بحب السيما " حيث الأب المتزمت الذي يرفض أن يذهب ابنه إلي السينما حتي لا يغضب الرب وحتي لا يذهب هو إلي الجحيم ، بينما الفتي الصغير نعيم يري أن الجحيم الحقيقي هو حرمانه من السينما .. ذلك العالم الساحر، وهو علي استعداد تام لأن ينصب عليه غضب والده في مقابل أن يذهب إلي السينما في تلك الجملة المتكررة "عايز أروح السينما.. السينما ذلك العالم الساحر المبهج المبهر الذي يغزل أحلامنا، ذلك الذي يشكل بوابة للفرار من قيود الواقع التي تحيط بنا إلي عالم بلا قيود .. هذا العالم الذي هربت إليه عشرات المرات بينما أشعر بفراغ داخلي لأعود ممتلئة ومحتشدة بكل المشاعر الإنسانية . ذلك العالم أيضا هو الذي ألقي بظلاله الساحرة علي دكتورة سلمي مبارك التي تشغل منصب أستاذ مساعد في الأدب المقارن بجامعة القاهرة ليشكل مسار حياتها منذ البداية ، وبينما توجهت لدراسة الأدب الفرنسي بكلية الآداب إلا أن السينما ظلت معشوقتها الأولي .. لتتحول إلي مجال لأبحاثها بل ولرسالة الدكتوراة الخاصة بها ..بل إنها فكرت في أن تشارك تلك المتعة غير المسبوقة مع طلابها بالجامعة فأسست نادي سينما بقسم اللغة الفرنسية بجامعة القاهرة عام 2005 ، حيث تعرض فيلما يوم الأحد من كل أسبوع لتفتح وعيهم علي تلك الثقافة الرفيعة، فالسينما بالنسبة لها وسيلة لتغيير المجتمعات والرقي بها ، وهي أيضا لم تكتف بذلك بل شاركت في تأسيس دبلوم النقد السينمائي بجامعة عين شمس وهو لم يبدأ فعليا بعد، كما تقوم بتدريس النقد السينمائي بجامعة عين شمس. بالإضافة لعضويتها بلجنة المشاهدة بمهرجان سينما الطفل ومهرجان القاهرة السينمائي الدولي ولجنة تحكيم جائزة ساويرس للسيناريو وغير ذلك . و د. سلمي مبارك متخصصة في مجال علاقة الأدب بالفنون، ونشرت العديد من المقالات باللغات العربية والفرنسية والألمانية في كتب جماعية ودوريات متخصصة صدرت في مصر وفرنسا وبلجيكا وسويسرا في مجال الأدب المقارن والنقد الأدبي والسينمائي. وقد أشرفت علي العديد من الورش في الكتابة الإبداعية والنقدية في الجامعة و خارج الجامعة في المناطق المهمشة، بالإضافة الي تأسيس مجلة Regards التي يصدرها قسم اللغة الفرنسية منذ 2004 كما شاركت مؤخرا في تأسيس دبلوم التنمية الثقافية وهو أول دبلوم مهني بالجامعات المصرية يهدف إلي تخريج متخصصين في مجال التنمية الثقافية، حيث تقوم بدور المرشد الأكاديمي للدبلومة إضافة إلي قيامها بتدريس مادة فنون الشارع والصورة لطلاب الدبلومة. وهي أيضا عضو بالجمعية المصرية للأدب المقارن وبالجمعية العالمية للأدب المقارن وبجمعية نقاد السينما المصريين، وشاركت في عضوية عدد من اللجان مثل لجنة الكتاب الأول التابعة للمجلس الاعلي للثقافة ولجنة السينما بالمجلس الأعلي للثقافة ولجنة السينما التابعة للمركز القومي للترجمة واللجنة الوطنية للسياسات الثقافية التي أشرفت عليها مؤسسة المورد الثقافي ولجنة تحكيم جائزة الدولة في الآداب و جائزة رفاعة الطهطاوي ، وقد حصلت علي جائزة النشر الدولي في المجلات العلمية العالمية في عام 2007 و 2013 من جامعة القاهرة وعلي جائزة التبادل الثقافي الممنوحة من وزارة ثقافة دولة الصين الشعبية في عام 2009 . ولم تتوقف د.سلمي مبارك في مسارها العملي علي العمل الأكاديمي ، حيث أشرفت علي الإدارة المركزية للاتفاقيات والبرامج الثقافية بقطاع العلاقات الثقافية الخارجية 2008- 2009 . وقد التقينا بالدكتورة سلمي مبارك للتعرف عليها عن قرب وعن عالمها الثري وحبها للسينما وكان لنا معها هذا الحوار. متي بدأ اهتمامك بالسينما ؟ لقد بدأ الأمر معي منذ زمن بعيد، فاهتمامي بالسينما بدأ وأنا في الرابعة عشر من عمري من خلال أستاذ اللغة الفرنسية آنذاك، هذا الإنسان الذي لن أنساه أبدا فقد علمني كيف أفكر، وقد كان يتحدث معنا عن السينما، وطلب منا أن نذهب للمركز الثقافي الفرنسي ونشترك في أنشطته ومنها السينما ومن هنا بدأ حبي للسينما، وبدأت مشاهدة الأفلام بل وارتياد دور العرض السينمائية في وقت كان ذهاب فتاة إلي السينما وحدها مغامرة بل ومخاطرة إن صح التعبير، وفي كل مرة كنت أخوض المغامرة وأذهب إلي السينما وأخرج وأنا سعيدة للغاية وأصبحت السينما جزءا لا يتجزأ من عالمي، فعندما أشاهد فيلم حلو أشعر بمتعة لا تضاهيها متعة أخري ، وأشكر الله أن هناك فنا جميلا يمتعنا ويعطينا هذه المشاعر الجميلة، وقد استمر حبي للسينما حتي قررت أن أحول هذا الحب للدراسة في موضوع الدكتوراه وسجلت في موضوع علاقة الأدب بالسينما، حيث تناولت أعمالا فرنسية بالمقارنة مع رواية إبراهيم أصلان "مالك الحزين" وفيلم "الكيت كات ". ولكن ما هي أبرز العلامات السينمائية التي شكلت وعيك في تلك المرحلة المبكرة؟ هناك الكثير من الأفلام المصرية الكلاسيكية التي كان يعرضها التلفزيون، ولكنني دائما أذكر "دعاء الكروان" و"الحرام" وهما أكثر فيلمين أثرا فيّ ، أتذكر أنني كنت ذات مرة أكتب مقالا عن فيلم الحرام، وكنت كلما قمت بتشغيله لا أتمالك نفسي من البكاء قبل أن أجلس لتحليل اللقطات والكادرات. كذلك عندما كنت أدرس الدكتوراه في بروكسيل كنت أشاهد خمسة أفلام في اليوم، وهناك كثير من الأفلام التي أحببتها كثيرا، أتذكر منها فيلم Blowup للمخرج أنطونيوني وهو من أفلام الحداثة، وتدور فكرته حول مدي تأثير الصورة في الواقع وتأثير الواقع في الصورة، حيث يدور الفيلم في إطار فلسفي عن علاقة المصور بالمادة التي يقوم بتصويرها ومدي تحكمه فيها بينما يقع في النهاية في حيرة إذا ما كان ما قام بتصويره موجودا من عدمه . ومتي فكرت في تأسيس نادي سينما لطلاب الجامعة ؟ نادي السينما بدأته كنشاط في 2005، وكان الهدف منه أن يكون هناك انفتاح علي السينما كأداة لنشر الثقافة والرقي بالذوق ودعوة للإبداع والتفكير، والواقع أيضا أن السينما تعاني من أزمة في الوسط الأكاديمي، حيث لا توجد دراسات سينمائية نقدية متخصصة، ففي الخارج لا تقتصر دراسة السينما علي معاهد السينما، بل نجدها في كليات الآداب خاصة أن المداخل النظرية لدراسة النقد السينمائي مستلهمة من نظريات النقد الأدبي. وقد حدثت نقلة في الجامعات الأوربية في السبيعينيات ودخلت السينما كمجال للدراسة الأكاديمية في الجامعة، وبالتالي بدأ تأسيس نظريات في النقد السينمائي مستلهمة من النقد الأدبي، هذا يجعل دراسة السينما في كلية مثل كلية الآداب مرحبا بها تماما ، وهو ما نسعي إليه حاليا من خلال تأسيس لدبلوم للنقد السينمائي بكلية آداب جامعة عين شمس. ولكن هل واجهت أية صعوبات إدارية عند بدء نشاط السينما داخل الحرم الجامعي؟ الحقيقة أنني لم أواجه أي معوقات إدارية ، علي العكس ما أن تقدمت بالورق إلي مجلس الكلية لبدء النشاط حتي حصلت علي الموافقة ، وبدأنا بعدها بأسبوع . ولكن الصعوبة الحقيقية تتمثل في تنظيم النشاط نفسه بداية من اختيار الفيلم والحصول عليه، ثم تصميم الإعلانات وتوزيعها، وإيجاد قاعة مناسبة ، والتأكد من عمل الأجهزة قبل الفيلم ، علي أن يتم هذا أسبوعيا، وهو يستغرق وقتا كبيرا إضافة إلي وقت عرض الفيلم نفسه والندوة التي تليه، وبالنسبة لي هذا هو التحدي الحقيقي. ولكن هل هو نشاط خاص بطلاب قسم اللغة الفرنسية فحسب؟ لا بالطبع النشاط مفتوح لكل الطلاب من الكلية أو من الجامعة أو من الخارج، لكن أحيانا يجد القادمون من الخارج صعوبة في دخول الجامعة، وفي الواقع إن المستهدف الأصلي من هذا النشاط هم طلاب الجامعة، ولذا اخترت أن يكون موعد العرض في الرابعة عصرا حتي يكون بعد انتهاء الطالب من محاضراته . وما هو معيار اختيار الأفلام التي يتم عرضها في نادي السينما ؟ اختيار الأفلام قائم علي التنوع ونشر الثقافة السينمائية العالمية، مع بعض الثوابت والتي تتمثل في عدم عرض الأفلام التي يمكن مشاهدتها في التلفزيون أو السينما، أو ما يعرف باسم الأفلام التجارية، بل نركز علي الأفلام ذات القيمة الفنية الرفيعة من ثقافات مختلفة من أوربا وآسيا وأفلام السينما المستقلة والبديلة المصرية، كما أهتم أيضا بعروض الكلاسيكيات وأفلام الأبيض والأسود وأفلام السينما الصامتة، وأنا بطبعي لا أحب التقييد ولذا في كل مرة أضع تحديا أمام نفسي في اختيار الفيلم مع الوضع في الاعتبار أن جمهوري ليس جمهورا لديه ثقافة سينمائية، بل إن بعضهم لم يدخل سينما من قبل، ولذا أحاول اختيار أفلام هادفة وممتعة في الوقت نفسه. وماذا عن جمهورك ..وعن نسب الحضور ؟ موضوع الحضور ليس سهلا ، ولكن حتي في قاعات العرض الضخمة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي مثلا قد تجد أن الحضور لا يتعدي 5 أفراد فحسب ، ولذا بالنسبة لي العدد موضوع نسبي ، كما أن ثبات الجمهور غير مطروح مع طلبة الجامعة، فأنا في عملية بناء جمهور مستمرة ، فطالب الجامعة لا يمضي أكثر من أربع سنوات قبل أن يتخرج ويكون علي أن أبني جمهورا جديدا، أما الوجوه الثابتة فتتمثل في بعض الأساتذة الذين يحرصون علي حضور كافة العروض، بل إن بعضهم حرص علي تفريغ جزء من جدوله الدراسي في موعد نادي السينما، حيث أصبح هذا الملتقي يشكل جزءا مهما في حياتهم، خاصة مع وجود نقاش نقدي بعد الفيلم ، وهو أجمل ما في نادي السينما حيث تكون مناقشتنا حقيقية جدا وفيها تلقائية شديدة . نشاط السينما لم يكن هو النشاط الوحيد الذي أسسته في الجامعة ، هناك أيضا مجلة Regards فما حكاية هذه المجلة؟ هي من قصص الغرام التي وقعت فيها ، فعندما بدأت العمل في قسم اللغة الفرنسية لاحظت وجود فروق في مستويات الطلاب، وكنت أري عناصر جيدة بحاجة لاكتشاف وتبن، فكرت في تنظيم ورشة كتابة، وبناء علي ما كتبه الطلاب، اخترت خمسة لورشة كتابة أسبوعية، وكان كل منهم يعبر عن نفسه بحرية ، وفكرنا أن نجمع نتاج هذه الورشة في مجلة، وبالفعل عملنا علي العدد الأول وأطلقنا عليها اسم " "Regards" والتي تعني نظرات ، وهي مجلة مبسطة جدا ، وكان غلافها بسيطا جدا لكنه جميل ، واستمر المشروع عبر كل تلك السنوات، وقد حقق المشروع الهدف منه وهو تشجيع الطلاب علي الكتابة، وكسر حاجز القداسة حول النص الأدبي، حيث يقتربون من عالم الأدب فعليا ويكتبون بأنفسهم نصوصا أدبية، وبالفعل شكلت المجلة فارقا في حياة كثير من هؤلاء الطلاب. وماذا عن مشاركتك في تأسيس دبلوم التنمية الثقافية والهدف من ورائها ؟ بدأ التفكير في الدبلوم عام 2012 ، من خلال فريق عمل مكون من د. فيصل يونس رحمة الله عليه ود. عماد أبو غازي منسق الدبلوم ، وكان العامل المشترك أننا أصدقاء بالأساس ولنا تجربة في العمل بالمؤسسات الثقافية، وقد فكرنا في تأسيس الدبلوم لسد احتياج العمل الثقافي في مصر ، حيث تتمثل رسالتها في تخريج عاملين مهنيين في مجال التنمية الثقافية يملكون ثقافة عامة مواكبة لتطور العصر وتتناسب مع احتياجات واقع المهن الثقافية في مصر ، بحيث يكون لدي هذه الكوادر معارف ثقافية وفنية مرتبطة بالحقل الثقافي إضافة إلي المهارات الإدارية اللازمة للعمل في الحقل الثقافي وسوقه وكذلك اكتساب القدرة علي تصميم مشروع ثقافي وتنفيذه، وتقوم فلسفة الدراسة علي تنوع المحتوي الدراسي بين مختلف المجالات التي يتطلبها العمل الثقافي. ونحن نأمل أن يكون هذا الدبلوم خطوة نحو تغيير إيجابي في المشهد الثقافي المصري . وماذا عن مادة فنون الشارع والصورة التي تقومين بتدريسها ؟ المادة الهدف منها التعريف بفنون الشارع و فنون الصورة و تنمية قدرة الطلاب علي قراءتها وفهمها وتوظيفها في التنشيط الثقافي وذلك من خلال دراسة موضوع محدد اخترته وهو : المدينة في الفن / المدينة فضاء للفن. وهو مقرر تم وضعه مع مقررات أخري داخل الدبلوم، وبالطبع فنون الصورة ليست جديدة حيث يتم تدريسها في مناهج السينما ، لكن فنون الشارع أصبحت تفرض نفسها علي المشهد الثقافي في مجال إدارة الفنون المعاصرة .