موت البطل المغوار شعر براحة نفسية غامرة وسعادة فائضة كادت تقذف بقلبه خارج جسده من شدة خفقانه، جلس علي كرسيه الوثير وفتح سوستة بنطاله الجينز باهت الزرقة وأزاح عنه حزامه، جلس كملك يتعري، فاردا أرجله الطويلة أمامه. واضعا يديه بجيوب بنطاله المتدلي، أغمض عينيه بينما ارتسمت علي وجهه الخشن ابتسامة عريضة، لم تستطع رغم ضخامتها أن تمحو الخطوط التي تشق جبهته العجوز رغما عن شبابه. ترك لخياله العنان في تخيل ما حدث بعد أن ترك المكان منذ ساعات، عندما ترك سيارته الخضراء موديل 75 بمنتصف الشارع المكتظ وأوقفها جيدا بمكان تصدرته لوحة "ممنوع الانتظار". خرج من سيارته ومشي بخطوات بدت ثابتة حتي وصل إلي مبني مجاور، تواري بمدخله الفسيح وتنفس من هوائه المترب، انتظر دقائق مرت كالساعات حتي جاءت سيارة الشرطة لتكلبش سيارته السبعينية المسنة فاطمأن قلبه وجر أذياله مهرولا مضطربا. عاد مشيا إلي بيته البعيد، خشي أن يركب سيارة أو أتوبيسا لسبب لم يعلمه. إلي أن اهتزت الأرض من تحت قدميه المرتجفتين، تزحزحت طبلة أذنه من مكانها بعدما سمع صوتا مدويا عصف بها، تثبت بمكانه وتحجرت عيناه، تجمد الدم بعروقه وعلا الشحوب وجهه... لم يعرف هل توقف قلبه عن الخفقان أم أنه زاد سرعة، بلع ريقه بصعوبة ثم عاد ليستكمل سيره نحو المنزل بخطي أشد اضطرابا وهرولة، وعيون ثابتة لا تتحرك، سمع صوت أنفاسه يتداخل مع أصوات عربات الإسعاف وسارينات الشرطة أو المطافئ. دخل بيته تحت أنغام تلك السيمفونية، هدأت أنغامها بعدما غرق بظلمة منزله، اصطدم الباب وأحدث دويا ذكره بسابقه فانتفض من مكانه، وشعر بضربات قلبه بوضوح للمرة الأولي منذ ساعات. وقع علي كرسيه واسترخي بينما علت الابتسامة وجهه المتخشب. تخيل المشهد بعد رحيله وكلما زادت خيالاته وكلما ازداد المشهد احمرارا، اتسعت الابتسامة حتي كادت تفلق وجهه نصفين... فزع فجأة من مجلسه، فوقع بنطاله وتكوم بين قدميه، لم ينحن ليرفعه، تحرك به متكوما بين قدميه نحو التليفزيون، كاد يتعثر فيه وهو يضغط علي الزر متحمسا لرؤية المشهد الذي خلفه وهو يتصدر الأخبار. وقف ولا تفصله عن الشاشة إلا طول ذراع. الأصوات والأنوار كلها من صنع يديه، هو صانع الحدث وملك اللحظة. ابتسم لما رآه، الذعر الذي غطي الوجوه والخوف الذي غلفها، الحزن الممزوج بالغضب، الكراهية المشحونة بالحب... طفح وجهه بابتسامة أزالت ما تبقي له من ملامح. توجه إلي مرآته الطويلة ووقف أمامها، رفع بنطاله الساقط بين قدميه ، وضع يديه في جيوبه وتأمل صورته، رأي نفسه بطلا لا يهزم تهتز له الآفاق، وعملاقا يخترق الحواجز ويزيل الصعاب... دقات قلبه لاتزال تتسارع بفرح ممزوج بالقلق، وفخر ممزوج باضطراب. الساعات تمر والكل يتحدث عن فعلته، البعض مستاء بتعقل والآخر مضطرب العواطف... الحنق يسيطر علي الجميع، لا يهم، المهم أنه مازال رجل الساعة وصانع الحدث. بدأت الابتسامة في الزوال تاركة خلفها خطوطا سوداء تخطط وجهه، أراد أن يفتخر أنه البطل الذي هز المدينة لأيام، الرجل الذي سرق النوم من لياليها، الذي أشعل الأحداث، أراد أن يشير إلي نفسه ويقول هأنذا أيها الجبناء، أنا رعبكم الذي يؤرق لياليكم. وبمرور الوقت تواري طعم اللذة بفمه، فخرج إلي الشارع، وقف بالميدان، أزاح التمثال الصامد بمنتصفه، واحتل مكانه، رسم وقفته بعناية، الرأس مرفوع إلي أعلي، العين نصف مفتوحة، ابتسامة جادة، جسد مفرود وظهر مشدود، انف يناطح السحاب، أرجل ثابتة غير ملتصقة ولا مفتوحة... وقف كثيرا بالميدان، يوما تلو الآخر، لم يغط رأسه تحت الأمطار ولم يمسح عرقه بالأيام الحارة، مرت أسابيع وهو متسمر بمكانه، لم يلتفت إليه المارة، الكل يسير بطريقه، وتبدل الأسود بالألوان، وحلت الإبتسامة محل الحزن تدريجيا، البنات جميلات بالشارع، يزين النهار بعدما زالت الغيوم، عاد العشاق يجلسون علي الكورنيش والأفراح تمر مواكبها بالطرقات، والأعياد تملأ قلوب الناس بهجة. ظل جسده في التضاؤل بصباح كل يوم جديد حتي صار صغيرا جدا، لا تلمحه بعينيك وقد تدهسه بحذائك دون أن تسمع صوتا يصيح " مات البطل المغوار، مات صانع الرعب، مات ملك الليل، مات سيد أسياد النهار." ذوات الشعر الأصفر ظنت ميرفت أن شعرها الأصفر هو سر تعامل الآخرين معها بتحفظ وتخوف دائمين، فهي ليست سوداء الشعر، وليست محجبة مثل باقي أهالي بلدتنا، وكانت تظن كما يظن الكثيرون أن الشعر المخفي تحت غطاء الرأس لابد وأنه أسود أيضا. لم تتلمس التعالي أو الاستكبار في تعاملها مع الآخرين، كانت تحاول أن تتعامل بتواضع مع الجميع. تواضعها المفتعل كان أشد وطأة من تعال طبيعي أو تلقائي. ظل شعرها الأشقر عائقا بينها وبين المجتمع الذي عاملها وكأنها من طبقة عالية مغايرة، ولكنهم لم يعاملوها أيضا كما يعاملون الشقراوات الأجنبيات، وكأنهن الشقراوات الحقيقيات وهي مجرد شقراء مزيفة... قد ينظرون لوجهها، عيونها الملونة، شعرها المنساب، جسدها المتدفق، بإعجاب وشهوة، ولكنهم يخشون أن يعاكسوها، وهي تحب أن يعاكسوها!! لم تتأكد أبدا هل ينظرون إليها بإعجاب حقيقي أم أنها نظرة استكشافية. إنها تفتقد للميزات التي تتمتع بها ذوات الشعر الأسود، فمنهن من هي أقل جمالا وتلقي من المغازلات أكثر مما تلقي هي بكل أنوثتها المتفجرة وجمالها الطاغي، حتي كادت تستشيط غضبا. قررت أن تجرب الحجاب، لم تلجأ لصبغ شعرها، فضلت إخفاءه لعلها تحظي بنظرات مختلفة أو بكلمات إطراء تطفئ نار غيرتها. لكن، وبشكل ما، علم الجميع أن ما يختفي تحت تلك القماشة أصفر اللون... إنه يبدو بنظراتها، بعينيها، بكل تفصيلة فيها. جدائل الذهب التي طالما سحرت الناس بأماكن وأزمنة عدة باتت مشكلتها وعقدتها التي لا تحل... تجاهلت نصائح البعض بصبغة شعرها لأسباب لم يعلموها قط. قررت ميرفت أن تقتدي بالحركات النسوية وأن تطالب بحقوقها، هي وكل من تعاني من الأزمة نفسها، اطلقت جمعيتها لذوات الشعر الأصفر، جمعية تطالب بمساواتهن بذوات الشعر الأسود، تطالب بالمعاملة بالمثل، بعدد مناسب من الأغاني المغناة عنهن وعن شعرهن الذهبي، بنصيب مساو من مقاعد البرلمان، وبحرية ترشح ذات الشعر الأصفر في الانتخابات الرئاسية. دعت جميع عضوات جمعيتها الوليدة إلي الخروج إلي الشوارع والتمرد والوقفات الاحتجاجية والإضرابات العمالية (إن كان بينهن عاملات) بحثا عن حقوقهن المهدورة. وقد تكون التقت ذات مرة بهيلاري كلينتون وتحدثتا بأحوال ذوات الشعر الأصفر بالعالم العربي والإسلامي. لم تكرهها النساء بسبب حركتها المناوئة لصاحبات الشعر الأسود، بل لقد شعرت نساؤنا بالفخر من غيرة تلك الشقراء منهن، أما الرجال فاستمتعوا بمتابعة وقفاتهن المتكررة وتجمعاتهن ناصعة البياض. زادت الهوة بينها، هي وزميلاتها، وبين أبناء شعبها الذين اعتبروهن غريبات عنهن... ولكن ما لم يعلمه أحد حتي الآن، ما لم يعلمه أحد أبدا، أنه منذ شهور قليلة مضت، في الصيف الماضي تحديدا، وقبيل ذيوع صيت ميرفت وشهرة اسمها، قبيل تأسيس جمعيتها وتدشين حملاتها، لم تكن ميرفت نفسها من ذوات الشعر الأصفر، حيث كان شعرها الذي بات حديث المدينة طويلا وأسود مثل كل نساء بلدنا قبل أن تغزوه صبغة صفراء لامعة مزيفة ولكنها علي كل حال لافتة، غريبة ومتقنة الصنع.