في الضحي العالي كانت تدب في جوف منزلنا الطيني المرسوم علي واجهته فوارس متآكلة الأرجل مكسورة الأنوف حركة غير عادية ، فاليوم هو الاحتفال بالليلة الكبيرة لمولد سيدي الأنصاري فهذا أبي قد شمر عن ساعديه الناحلين ، وامسك بالفأس ، واخذ يضرب بها جزع شجرة عتيقا لإعداد الوقيد ، وهذه أمي بوجهها الصبوح قد جلست قبالة الموقد الطيني وأخذت تسوي بإحدي يديها رماده كفنان يضع اللمسات الأخيرة لإحدي لوحاته ، وبيدها الأخري ترص بداخله مايتناثر حول أبي من قطع خشبية ، وهذه أختي قد فرغت لتوها من تنظيف ذكر البط الذبيح ، ووضعته مع الماء في الحلة النحاسية الكبيرة ، فيما اخذ أخي الأكبر يشعل النيران في قطع الأخشاب بعد ان يسكب عليها قطرات الجاز من زجاجة متربة فترتفع السنة اللهب ، وتأخذ الحلة في الغليان المصحوب بصوت محبب إلي نفسي ممتزج ببخار فواح يعطر أرجاء المنزل برائحة اللحوم الطازجة ، كل ذلك وأنا جالس علي المصطبة الطينية الموشاة بالتبن والرابضة في وسط الدار اجتر أحزاني مسترجعا المشهد الجنائزي الرائع لدرويش قريتنا ، وكيف خرجت القرية منذ أيام قلائل رجالا وأطفالا ونساء في وداع الرجل إلي مثواه الأخير ، يدفعهم لذلك حبهم له وارتباطهم به كقائد وحيد لحلقات الذكر المدهشة علي مدي سنوات هي العمر كله . وكلما سألت نفسي من الذي سوف يقود حلقة الذكر هذه الليلة ؟ ولم أجد إجابة شافية كلما سافرت الأحزان في دمي ، ووجدتني قابعا بكل كياني في قوقعة الشجن ، وما كاد ينتصف النهار حتي أخذت أمي تجفف قطرات العرق البلورية من فوق جبهتها ووجنتيها وبخرقة قديمة أمسكت بالحلة ، وأنزلتها وأمرت أختي أن تفرش الحصيرة ، وبصوتها الرخيم نادتني في محاولة منها لرفعي من بئر الأحزان ، ولكن كان موت درويش القرية يلقي بظلاله السوداء علي كياني الأخضر ، وتجتاحني رغبة عارمة في البكاء ، ولما لاحظ أبي مدي حزني وشرودي مد يده إليُ برغيفين من الخبز الجاف وامرني أن اكسرهما لإعداد الفتة ، وبتكاسل تناولت الرغيفين ورحت اكسرهما كسراً صغيرة في حجري وقمت حتي وصلت اليهم وفردت حجري في الإناء الفخاري الكبير فيما اخذ أبي يصب المرقة الساخنة علي الخبز الجاف فتتصاعد الأبخرة الشهية ويتهافت إخوتي علي الطعام ، وعلي سبيل مجاراتهم رحت أشاركهم الطعام الذي أضاع طعمه ونكهته كم الحزن الهائل الراقد في اعماقي ، فلم أكن أتصور كيفية قضاء الليلة بدون مولانا درويش القرية والقائد الوحيد لحلقات الذكر المدهشة . وبعد أن فرغنا من الطعام طافت برأسي فكرة تجميع الأطفال والذهاب بهم في شبه مظاهرة إلي منزل درويش القرية والإلحاح علي زوجته حتي تخرج لنا الطبول والبيارق والأعلام ، وبالفعل نجحت في حشد عدد كبير من الأطفال واخترقنا شارع داير الناحية إلي شارع الرحمة حيث تقع دار مولانا درويش القرية يسبقنا صياحنا طلعوا لنا الطبل ، طلعوا لنا الطبل ، طلعوا لنا الطبل فخرجت إلينا زوجة الدرويش تشي هيئتها الكئيبة بأحزان خاصة قائلة : الطبل موجود والبيارق موجودة والأعلام موجودة بس مين اللي هيقود الذكر ؟ سؤالها هذا جعلنا نعيد التفكير نعم من الذي سوف يقود الذكر ؟ خاصة وان المرحوم لم يحدد في وصيته من الذي سوف يقوم بهذه المهمة بعد وفاته فقد فاجأه المرض ولم يتمكن من توكيل احد المريدين بالقيام بهذه المهمة إذن لا وقت للتفكير فالشمس قد مالت الي الشحوب واعتري وجهها الذبول وعلينا بالذهاب الي ابنه البكري ربما يقوي علي القيام بهذه المهمة هكذا قال أكبرنا ، فاستدار الموكب الطفولي متوجها ناحية الجسر حيث كان الولد يقف حزينا تسكنه الرهبة يتسند إلي النخلة الوحيدة والتي يمتد ظلها بطول البراح ، يتحلقه بعض الصبية وقد حملوا فوارسهم الحلوي وعرائسهم ذات الفساتين الورقية المفضضة ، متوسلين اليه ان ينزل علي رغبتهم والقيام بهذه فهو ابن الدرويش والخليفة المنتظر ... وها هي السماء قد تخضبت بدماء الشفق ، وبدأ الليل يزحف ببطء معكراً بياض الأفق واقترب موعد خروج الزفة ولكن الولد لا يزال مسكونا بالخوف خشية من مواجهة الموقف متذرعا بان بعض الأطفال الأشقياء يلوحون له عن بعد بالإبر الصدئة والمسامير المدببة والتي جهزوها لوخزه بها حال قيادته للموكب وعلي عجل احضر الرجال الثلاثة حصانا ابيض عريض الصدر ، دقيق الخصر ، قوي الأرجل ، تعلو جبهته غرة سوداء تضفي عليه جلالا وبهاء ، وتم تزيينه بسرج من القطيفة الحمراء اللامعة ووضعت له الشخاليل النحاسبة في رقبته وبمساعدة الرجال الثلاثة اعتلي الولد ظهر الحصان ، ملتحفاً بالبيرق الأخضر ، متوجها الي الساحة حيث تقام حلقة الذكر ، وانطلق صوت المنشد عذباً شجياً واخذ إيقاع الطبول يتصاعد رويدا رويداً حتي غطي علي جميع الأصوات ، ومع مرور الموكب بالشوارع والحواري المؤدية إلي الساحة المخصصة للذكر يزداد عدده ، فالبيوت كانت تلفظ ما بداخلها من رجال ونساء وأطفال ينضمون بتلقائية للموكب الجليل حتي بدت القرية وكأنها مشدودة بخيط رفيع إلي ذيل الحصان ، فإذا اتجه الولد ناحية اليمين انجذب الموكب ناحية اليمين ، وإذا اتجه الولد ناحية اليسار انجذب الموكب ناحية اليسار ، حتي تخطي الولد الساحة المخصصة للذكر متجهاً ناحية النهر غارقاً في نشوة الوصال ، يتناثر الرغاء من فمه ، وقد رمي البيرق وخرج من جلبابه وبدت عورته واضحة جلية للعيان .